من الخديوي سعيد إلى الخديوي عبد الفتاح.. كيف تفكّك الاقتصاد المصري؟

668 views Leave a comment
من الخديوي سعيد إلى الخديوي عبد الفتاح.. كيف تفكّك الاقتصاد المصري؟

أثناء حضوره افتتاح مصنعَيْ الغازات الطبية والصناعية التابعين لشركة النصر للكيماويات الوسيطة فى منطقة أبو رواش بمحافظة الجيزة، في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن برنامج الطروحات الحكومية في البورصة المصرية سيشمل شركات تابعة للقوات المسلحة، الأمر الذي سيفتح الباب أمام المواطنين والقطاع الخاص لتملّك أسهم في هذه المؤسسات، وهو ما سيفتح الباب بالضرورة أيضا لبيع تلك الأسهم والشركات للمستثمرين الأجانب.

  

تستدعي تصريحات الرئيس المصري الحالي، التي تُلقي بعض الضوء على جانب من المصير المنتظر لاستثمارات المؤسسة العسكرية المصرية التي توسع نشاطها في الاقتصاد المصري بشكل غير مسبوق في السنوات الماضية، ذكريات عن احتكارات محمد علي باشا الاقتصادية، التي تفككت في نهاية حكمه، ومن ثم وقع الاقتصاد المصري في قبضة حملة السندات والأسهم من الأجانب الأوروبيين في عهد ابنيه سعيد وإسماعيل، وذكريات لاحقة أخرى عن القطاع العام الكبير الذي دشّنه الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، والذي تفكك إلى حدٍّ بعيد عبر إتباع الحكومة المصرية لسياسة الخصخصة لا سيما في العقد الأخير من عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، وانتقلت ملكيته بنهاية المطاف إلى القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب كذلك.

  

فكما يقول الباحث والأكاديمي المصري الراحل نزيه الأيوبي في كتابه “الدولة المركزية في مصر” في معرض مقارنته بين تجربتي محمد علي وعبد الناصر: “يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه، وأننا نمر “بدورة” جديدة أو “حركة بندول” جديدة”. [1]

  

الدولة المركزية في مصر، نزيه الأيوبي (مواقع التواصل)

   

فقصة انهيار الاقتصاد المصري هي قصة وقوعه في أيدي المستثمرين الأجانب مرتين: الأولى في عهد أبناء محمد علي باشا وأدّت إلى الاحتلال البريطاني لمصر، والثانية في عهد جمهورية يوليو وأدّت إلى وصول الدولة المصرية إلى حافة الإفلاس الرسمي، قبل أن ينتهز الرئيس الأسبق فرصة حرب الخليج الثانية ليُرسل الجيش المصري مقابل إسقاط نصف ديون مصر وإعادة جدولة النصف الثاني وفقا لشروط صندوق النقد الدولي.

  

أما هذه المرة فإننا فقط أمام أسماء جديدة للمراكز القانونية والسياسية نفسها للاعبين القدامى تقريبا، ففي هذه الدورة الراهنة التي يبدو أنها تُمثِّل نموذجا تكراريا لما تحدّث عنه نزيه الأيوبي من قبل، يتوقّع أن تتسرّب الهيمنة على الاقتصاد المصري من قبضة المؤسسة العسكرية المحتكرة للعديد من أوجه النشاط الاقتصادي في الوقت الراهن، لتنتهي في أيدي المؤسسات المالية الأجنبية، وفي أيدي كذلك طبقة من الأثرياء الجدد ستنشأ على الأرجح من داخل النخبة البيروقراطية أو الصفوة الرسمية المصرية، كما حدث خلال عهد حكم أبناء محمد علي، وأثناء حكم الرئيسين المصريين مبارك وأنور السادات.

   

يؤرّخ نزيه الأيوبي لبداية رأسمالية الدولة في مصر منذ عهد محمد علي باشا، العهد الذي شهد ذوبان الهيكل الاجتماعي المصري التقليدي، المكوّن من العصبيات العائلية الريفية والقبلية ومن الطوائف الحرفية والتجارية والأوقاف الخيرية والملل الدينية للأقليات غير المسلمة والطرق الصوفية، وأُعيد تقسيم البلاد إلى مديريات يرأسها مديرون خاضعون بالكامل إلى المركز السياسي في القاهرة بدلا من القادة المماليك في العصر السابق، الذين أنهى محمد علي نفوذهم بمذبحته الشهيرة في القلعة في عام 1811م. [2]

   

بعدما أصبح محمد علي هو المالك الوحيد لأراضي البلاد، والتاجر الوحيد لحاصلاتها الزراعية، أضحى الأخير أيضا هو المحتكر الوحيد للصناعة

مواقع التواصل

  

لمنع المماليك من استعادة قوتهم، من خلال ما كانوا يحصلون عليه من أموال مقابل تحصيلهم للضرائب المفروضة من الباب العالي في الأستانة، أَمَّم محمد علي جميع الأراضي الزراعية في البلاد، وأجبر الفلاحين الذين كانوا يتمتعون بحق الانتفاع على الأرض على بيع محاصيلهم إليه بأسعار منخفضة، ثم يُعيد محمد علي بيع المحاصيل والغلال إلى السوق الداخلي والخارجي بأسعار أعلى. [3]

   

تسلسل نظام الاحتكار بدءا من تملُّك محمد علي باشا معظم الأراضي الزراعية، وإلغاء نظام الالتزام واسترداد أملاك الملتزمين، وإلغاء معظم الأوقاف، ثم امتد الاحتكار إلى الحاصلات الزراعية، ومن ثم أصبح الفلاح المصري لا ملكية له على الأرض أو حتى ما تُنتجه. وانتقل مبدأ الاحتكار بعد ذلك من الزراعة والتجارة إلى الصناعة، فبعدما أصبح محمد علي هو المالك الوحيد لأراضي البلاد، والتاجر الوحيد لحاصلاتها الزراعية، أضحى الأخير أيضا هو المحتكر الوحيد للصناعة. [4]

  

وجَّه محمد علي شطرا كبيرا من الأرباح التي حقّقها من احتكاراته الزراعية والتجارية في بناء الصناعات، بدءا من من صناعة النسيج وصولا إلى صناعة الأسلحة، وكانت الصناعة في هذا الإطار مملوكة للدولة بالكامل، ومحمية من الدولة، كصناعة النسيج التي حماها محمد علي من خلال حظر استيراد المنسوجات البريطانية الرخيصة. [5]

  

رغم المشاريع الضخمة التي قام بها محمد علي باشا، مثل الخزانات والسدود ومشاريع الري، وبناء المصانع، والتوسُّع في التعليم والصناعات وإرسال البعثات الدراسية إلى الخارج، وبناء جيش قوي وأسطول مصري كبير، فإن الأخير لم يسمح لنفسه قطّ بالتورط في الديون الخارجية، فحين كان يحتاج إلى المزيد من الأموال لتمويل حملاته العسكرية في السنوات الصعبة من الناحية الاقتصادية، كان يستغني عن الواردات غير الضرورية، ويُجبر التجار الأجانب على دفع قيمة مشترياته منه مُقدَّما. [6]

    

  

وعندما كان يعجز الباشا عن دفع مرتبات موظفيه، فإنه يعطيهم بدلا منها سندات على الحكومة يقومون بخصمها لدى التجار أو بعض المقرضين المحليين، وبمجرد ما تمتلئ خزانته من جديد خلال فترة لا تزيد على السنة، سرعان ما تتم تسوية تلك الديون الداخلية. ولذلك عندما تُوفِّي محمد علي لم تكن مصر عند وفاته مدينة للخارج بقرش مصري واحد. [7]

  

بعد تولِّي الخديوي سعيد ابن محمد علي باشا الحكم، لم يطل به الوقت حتى تورّط في الديون، فبعد أقل من ثلاث سنوات من بداية حكمه بدأ يتأخر عن دفع مرتبات موظفيه. ولهذا السبب بدأ سعيد في الاقتراض من عدد من البنوك الأوروبية التي نشأت في الإسكندرية، ثم بعد ذلك لجأ إلى إصدار أذونات على الخزانة المصرية، كان يستخدمها أحيانا في دفع مرتبات موظفيه، ومن ثم كان دائنو الموظفين من الجزارين والخبازين وغيرهم يتجمعون على أبواب وزارة المالية، ليُطالبوا بقيمة تلك الأذونات. [8]

     

لم يكتفِ سعيد بالاستدانة الداخلية وحسب، بل لجأ كذلك إلى القروض الخارجية، وكان أول قرض خارجي قد عقده في هذا الإطار مع أحد المصارف الفرنسية، ولكنه كان قرضا باسمه الشخصي لا باسم الحكومة المصرية، وكانت قيمته الرسمية 1,2 مليون جنيه إسترليني، وسعر فائدة 6%. [9]

  

لم يمضِ أكثر من عام حتى لجأ سعيد إلى قرض آخر هو أول قرض خارجي تعقده الدولة المصرية رسميا في تاريخها الحديث، قدّمه لها -باختلاف المصادر- مصرف أوبنهايم الألماني بمبلغ 2,5 مليون جنيه إسترليني، يُسدَّد في مدة ثلاثين عاما بسعر فائدة 11%، بحسب الكاتب الإنجليزي جون مارلو في كتابه الصادر في لندن عام 1974 تحت عنوان “Spoiling the Egyptians”[10]، أو بنك فرهلنج & جوشن في لندن، بحسب عبد الرحمن الرافعي في المجلد الأول من كتابه “عصر إسماعيل”، وكان ذلك القرض في عام 1862، وقيمته 2,242,800 جنيه إسترليني بفائدة 7%، ويُسدَّد أيضا خلال ثلاثين سنة. [11]

    

الخديوي سعيد ابن محمد علي باشا (مواقع التواصل)

  

عندما تُوفِّي الخديوي سعيد، كانت مصر مدينة بديون طويلة الأجل بنحو 8 ملايين جنيه إسترليني، بالإضافة إلى دَيْن واجب السداد خلال 3 سنوات بقيمة مليون جنيه، وديون أخرى قصيرة الأجل تبلغ نحو 9 ملايين جنيه، وكانت هذه المبالغ تُمثِّل قيمة مالية هائلة بمقاييس ذلك الوقت. [12]   

  

يقول أستاذ الاقتصاد المصري جلال أمين في كتابه “قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك” الصادر عام 2012 إن الخديوي سعيد لم يكن بحاجة إلى كل هذا التورط في الديون، التي لا يُبرِّرها جهوده المحدودة في التنمية، ولا النفقات العسكرية التي انخفضت في ذلك الوقت بسبب تقليص تعداد الجيش المصري في عهده، فضلا عن عدم تورط سعيد في حروب مباشرة، ولا يُبرِّرها إسراف شخصي أو شيء من ذلك القبيل، إنما يجد أمين تبريرها في الظرف الدولي، الذي لم يَعُد يتحمل انطواء الاقتصاد المصري على نفسه، كما كان الحال في عهد أبيه محمد علي باشا، وأخيه الخديوي عباس الأول، الذي يعتقد أمين أن وفاته الغامضة كان وراءها عزوفه عن لقاء الأجانب والاختلاط بهم فضلا عن الاستدانة منهم.

  

بعد تولِّي الخديوي إسماعيل الحكم عقب وفاة شقيقه سعيد، لم يضغط إسماعيل الإنفاق الحكومي لسداد الديون التي تراكمت على البلاد في عهد أخيه، ولكن كما هو معروف توسّع في الديون الخارجية إلى درجة بالغة الخطورة، وأصبح غير قادر على سدادها، على نحو أدّى في نهاية المطاف إلى تسليم إدارة المالية المصرية إلى المراقبين الماليين الأجانب في عام 1876، الذي بلغت فيه ديون مصر الخارجية نحو 91 مليون جنيه، يصل حجم خدمتها السنوية من الأقساط والفوائد أكثر من 6 ملايين جنيه، ما يُمثِّل 80% تقريبا من إيرادات الدولة في ذلك العام.

     

كان أحد أهم الأسباب التي أدّت إلى تراجعات مصر المالية أيضا في عهدَيْ سعيد وإسماعيل هو خسائرها في مشروع قناة السويس التي منح سعيد باشا امتيازها إلى الفرنسي فرديناند ديليسبس في 30 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1854، حيث تحمّلت مصر في تكاليف إنشاء القناة وحفلة تأسيسها والفوائد المالية مبلغا يُقدَّر بنحو 16,800,000 جنيه. ورغم أن هذه النفقات المالية تُمثِّل معظم ما تم إنفاقه في القناة، حيث يُقدَّر المبلغ الإجمالي بحسب إحصاءات الشركة بما قيمته 18,000,000 جنيه، فإن نصيب مصر من أسهم الشركة كان هو نصف أسهمها فقط. [13]

    

ترك إسماعيل حكم مصر وهي على أعتاب الاحتلال البريطاني، حيث كان أحد الأسباب الرئيسية لتمرّد ضباط الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي

مواقع التواصل

   

كان هذا المقدار من الأسهم التي تملّكتها الحكومة المصرية، رغم عدم تناسبه مع ما تكبّدته البلاد من نفقات في تدشين القناة، موردا ماليا كبيرا بلا شك، إلا أن إسراف الخديوي إسماعيل بشكل كبير في اللجوء إلى الديون الخارجية أدّى إلى حرمان مصر من تلك الثروة الضخمة المتوقّعة من أرباح القناة، مما اضطر إسماعيل تحت ضغوط الديون الخارجية إلى بيع أسهم مصر في قناة السويس إلى الحكومة الإنجليزية، التي وجدت ذلك فرصة سانحة لوضع يدها على القناة، فاشترت هذه الأسهم بثمن بخس هو 4 ملايين جنيه إسترليني، وبمقارنة ما تكبّدته مصر في نفقات القناة، والثمن الذي حصلت عليه من بيع أسهمها، يمكن أن ندرك طبيعة الخسارة المالية الفادحة التي وقعت فيها البلاد في ذلك الوقت. [14] كل ذلك فضلا عن تنازل مصر عن 15% من أرباح القناة السنوية التي تؤول إليها بموجب عقد الامتياز، بسبب قرض خارجي اقترضه إسماعيل بقيمة 22 مليون فرنك فرنسي، أي نحو 880 ألف جنيه مصري. [15]

    

لضمان سداد قروض الدائنين الأجانب، أنشأ الخديوي إسماعيل صندوقا للدَّيْن في 2 مايو/أيار 1876م، كما أصدر في 11 مايو/أيار من العام نفسه مرسوما بإنشاء مجلس أعلى للمالية، مكوّن من خمسة من الأجانب وخمسة من المصريين، ومنذ ذلك التاريخ انزلقت البلاد في طريق التدخُّل الأجنبي الذي تعمَّق بمرور الوقت، من خلال فرض الرقابة الثنائية البريطانية الفرنسية على المالية المصرية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، والخضوع للجنة التحقيق الأوروبية على المالية المصرية في يناير/كانون الثاني من عام 1878، وتشكيل وزارة مختلطة من المصريين والأجانب في العام نفسه بعد الخضوع للجنة التحقيق. [16]

    

ترك إسماعيل حكم مصر وهي على أعتاب الاحتلال البريطاني، حيث كان أحد الأسباب الرئيسية لتمرّد ضباط الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي والثورة ضد التدخُّل الأجنبي في الشأن المصري عبر نافذة الديون الخارجية للمقرضين الأجانب، وهو الأمر الذي أدّى إلى إرهاق المالية العامة للبلاد، وقاد الاقتصاد المصري إلى الانهيار وإعلان الحكومة المصرية الإفلاس، وأدّى في نهاية المطاف إلى الاحتلال البريطاني للبلاد في عام 1882، كتتويج لتلك العملية الطويلة من التدخُّل والرقابة المالية في مصر منذ عام 1876، تحت دعوى حماية مصالح الرعايا الأجانب، بعد الأحداث التي شهدتها مدينة الإسكندرية خلال الثورة العُرابية وما جرى خلالها من اشتباكات وحرق لمحلات الأجانب.

    

الثورة العرابية (مواقع التواصل)

    

دخلت مصر بعد وقوعها تحت الاحتلال في عصر آخر كانت سمته الأساسية دفع الاقتصاد المصري للنمو السريع من خلال التوسّع في زراعة القطن بشكل رئيسي، وذلك لخدمة الدائنين الأوروبيين. فشجّعت بريطانيا الملكية الخاصة، وأجبرت الدولة على خصخصة ملكية الأرض الزراعية، ودعمت إستراتيجية تصدير المنتجات الأولية وعلى رأسها القطن، ونتيجة ذلك توسّعت أعداد نخبة مُلّاك الأراضي، وصارت قوة وازنة يُحسب لها حساب، واتفقت مصالح تلك النخبة مع الاحتلال بسبب قضية زراعة وتجارة القطن. [17]

    

واستمر هذا الحال الذي أدّى إلى ظهور طبقة من الإقطاعيين المصريين الذين يملكون مزارع وأراضي وعزبا شاسعة، إلى أن جاءت حركة ضباط يوليو 1952 وقوانين الإصلاح الزراعي التي حدّدت الملكية الزراعية للأفراد، وانتزعت الأرض من أيدي كبار المُلّاك ووزعتها على صغار المزارعين، الأمر الذي استفاد منه الضباط في تحقيق شرعية سياسية جماهيرية من جهة، وفي تقليم أظافر خصومهم السياسيين من طبقة كبار مُلّاك الأرض وحرمانهم من مصدر قوتهم من جهة أخرى، كما فعل محمد علي باشا بشكل أو بآخر مع المماليك. لينتقل الاقتصاد المصري إلى مرحلة جديدة، غير أنها تشكّلت مرة أخرى في قالب قديم.

  

مثّلت سنوات الحرب العالمية الثانية نقطة تحوُّل أساسية في تطور ديون مصر الخارجية، حيث استطاعت مصر خلالها ليس فقط تسديد ديونها، بل تحوّلت من دولة مدينة إلى دولة دائنة. واستمر هذا الوضع تقريبا حتى نهاية عام 1958،[18] بعد انطلاق مشروع التنمية الناصري، الذي دشّن لرأسمالية دولة جديدة تمثّلت في القطاع العام، الذي استحوذ على 90% من إجمالي الناتج القومي غير الزراعي، وعلى 90% أيضا من إجمالي رأس المال المحلي. [19]

   

مَثَّلَ رحيل جمال عبد الناصر ومجيء أنور السادات في عام 1970 بداية صراع على السلطة بين مجموعات النخبة السياسية والبيروقراطية المهيمنة

مواقع التواصل

   

خلال فترة عبد الناصر، تشكّلت طبقة يمكن تسميتها بالطبقة البرجوازية البيروقراطية، من كبار الموظفين في القطاع العام الذين استفادوا من مواقعهم الرسمية والسياسية في تنمية ثرواتهم وأعمالهم الخاصة المسجلة باسم ذويهم كالزوجة والأشقاء والأبناء في الغالب. في هذا السياق كانت العمليات التي أسندها القطاع العام في كل سنة من سنوات الخطة الخمسية الناصرية إلى المقاولين من الباطن تصل إلى 144 مليون جنيه، محققة ريعا يُقدَّر بـ 29 مليون جنيه. [20]

   

استغل القطاع الخاص في ذلك الوقت هذا الوضع، وأخذ في رفع سعر العمليات المعهود بها إليه، رغم نظام المناقصات المعمول به آنذاك، وهو ما أدّى إلى زيادة تكلفة أعمال التشييد والبناء التي كانت تُمثِّل 47% من قيمة الاستثمارات الموضوعة في الخطة الخمسية، ولهذا ارتفع في تلك السنوات إنتاج القطاع الخاص بنسبة 132,4% مقارنة بالقطاع العام الذي بلغ نموه 121,1%، الأمر الذي أنتج ما يشبه الوضع التاريخي السابق لكبار المُلّاك في الحقبة الليبرالية أثناء سنوات الاحتلال البريطاني. [21]

  

وهو الوضع الذي انطوى على مفارقة بين الهيمنة الظاهرية والفعلية، حيث كانت الهيمنة الظاهرية للقطاع العام في تلك المرحلة تشبه هيمنة أبناء أسرة محمد علي باشا الظاهرية أيضا، بينما كانت بذور البرجوازية من طبقة كبار المُلّاك والتجار تمدّ جذورها في تربة الاقتصاد المصري بالعصر الملكي لتصبح لها المصالح الأكبر في عصر الامتيازات الأوروبية والاحتلال الإنجليزي. كذلك هيمنت برجوازية بيروقراطية نشأت في العهد الجمهوري على النشاط الاقتصادي عمليا، رغم الاحتكار الظاهري للقطاع العام في ذلك الوقت.

   

  

ثم مَثَّلَ رحيل جمال عبد الناصر ومجيء أنور السادات في عام 1970 بداية صراع على السلطة بين مجموعات النخبة السياسية والبيروقراطية المهيمنة، الذين انقسموا بين الانحياز إلى الاقتصاد الاشتراكي، والتحالف مع الاتحاد السوفيتي من ناحية السياسة الخارجية، بينما انحاز البعض الآخر إلى تفكيك القطاع العام والعودة إلى نظام السوق، والتقارب بنهاية المطاف مع الولايات المتحدة الأميركية كما جرى بعد ذلك في عام 1975، عندما تبنّى أنور السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي، حسم السادات ذلك الصراع مبكرا في مايو/أيار عام 1971، من خلال ما سماه الأخير بثورة التصحيح، التي اعتقل فيها مجموعة كبيرة من معارضيه الرئيسيين من داخل النظام، أو ما عُرف تاريخيا بـ “القضاء على مراكز القوى”. [22]

  

خلال فترة حكم السادات، زادت ديون مصر الخارجية بدرجة مذهلة، ولا يتوافر هنا في هذا السياق أرقام دقيقة عن بعض الديون لا سيما الديون العسكرية، ولكن يمكن أن تعطينا الديون غير العسكرية مؤشرا عن طبيعة تلك الزيادة في حجم الاستدانة الخارجية، حيث ارتفع الدين الخارجي العام المدني متوسط وطويل الأجل من 1,7 بليون دولار خلال العام الذي تُوفِّي فيه عبد الناصر إلى 14,3 بليون دولار في عام مقتل السادات، ما يعني أنه تضاعف خلال فترة حكم الأخير أكثر من ثماني مرات. وهذا لا يشمل كل أنواع الديون، حيث هناك الديون الحكومية قصيرة الأجل والديون العسكرية خلال فترتَيْ حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، ويمكن تقدير إجمالي تلك الديون بنحو 30 بليون دولار. [23]

  

مثلما افتقد الخديوي سعيد لأي مبرر منطقي أو اقتصادي يدعم تورطه الواسع في الدَّيْن الخارجي، حسب ما يقول الكاتب والاقتصادي المصري جلال أمين، فكذلك بدا تورط السادات في نظر أمين، حيث ذهب الأخير إلى أن تلك الفترة من عام 1975 حتى اغتيال السادات في عام 1981 كانت فترة مواتية وتُمثِّل أنسب الظروف لتخفيض الدَّيْن الخارجي، ولكن ما حدث هو العكس بالضبط، ولا يستبعد أمين في هذا السياق تعرُّض السادات للإغراء والإكراه، على النحو ذاته الذي تعرَّض له -كما يُرجِّح جلال أمين- الخديوي سعيد وشقيقه إسماعيل. [24]

     

هنا يقفز في الذهن مباشرة ما قاله الخبير الاقتصادي الأميركي جون بيركنز في كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي: الاغتيال الاقتصادي للأمم” عن دوره بعد تجنيده من قِبل وكالة الأمن القومي الأميركي في توريط الدول والحكومات الأجنبية في الديون، إلى درجة لا تستطيع معها السداد، ومن ثم تستطيع المؤسسات المالية الدولية والولايات المتحدة الأميركية السيطرة على ثرواتها الاقتصادية وقرارها السياسي.

      

كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي: الاغتيال الاقتصادي للأمم” للخبير الاقتصادي “جون بركنز” (مواقع التواصل)

   

يقول جلال أمين في معرض المقارنة بين أنور السادات والخديوي إسماعيل:

“لا يمكن لأحد يعيش في الثمانينيات من القرن العشرين، إذا شرع في قراءة تجربة مصر في التورط في الديون في عهد الخديوي إسماعيل، ألّا يُصاب بالدهشة، إذ يرى أوجه الشبه الصارخة بين تجربة الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر، وتجربة السبعينيات من القرن العشرين. إن التاريخ لا يمكن أن يُعيد نفسه بالضبط، وهناك بالطبع من أوجه الاختلاف ما لا يُمكن إنكاره… ولكن ما معنى الكلام عن “دروس التاريخ”، بل ما فائدة قراءة التاريخ أصلا؟، إن لم يكن هناك بعض الصدق في القول إن التاريخ يُعيد نفسه”. [25]

 

غير أن التشابه بين عهد إسماعيل وعهد السادات لا يقتصر فقط على تنامي الديون الخارجية، بل يشمل كذلك اهتمام كلٍّ منهما بمشاريع البنية الأساسية والتغيُّر العمراني، دون إحداث أي تغيُّر ذي بال في هيكل الاقتصاد المصري لصالح مشاريع التصنيع. [26]

  

كانت نتيجة تلك السياسات هي وقوع مصر بالكامل في خانة التبعية، حيث حال قبول السادات بدرجة عالية من التبعية لسياسة الولايات المتحدة الأميركية بينه وبين رؤية التبعات والأخطار الشديدة للتورط في الديون الخارجية، على النحو الذي تورطت فيه مصر في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما أدّى إلى خضوع مبارك لإملاءات صندوق النقد الدولي ابتداء من سنة 1987، واستمرت سياسة مصر الاقتصادية بعد ذلك خلال بقية عهد مبارك تتبع إلى حدٍّ كبير توجيهات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تقف وراءها وتدعمها الولايات المتحدة الأميركية. [27]

  

بحلول أوائل التسعينيات، بلغ الدين الخارجي لمصر 49 مليار دولار، وبلغ العجز في الميزانية 15%، وتجاوز معدل التضخم السنوي نسبة 20% [28]، وبالتالي عجزت الحكومة المصرية عن سداد فوائد وأقساط الدين العام وكادت أن تُعلن الإفلاس رسميا، لولا اندلاع حرب الخليج الثانية بعد احتلال صدام حسين للكويت، حيث استفادت مصر من مشاركتها في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت عبر إسقاط الولايات المتحدة والدول الأعضاء في نادي باريس ودول الخليج لنصف ديونها. الأمر الذي حال دون وقوع الدولة المصرية في هوّة الإفلاس.

    

   

في سياق عجز الميزانية الحكومي المزمن في عهد مبارك، لجأت مصر إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وعقدت اتفاقية مع المؤسسة الأولي في مايو/أيار 1991، ومع الثانية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، واضطرت الحكومة المصرية للتجاوب مع شروط المؤسستين فيما يتعلّق بأسعار صرف العُملة، وما يُعرف بالتكيُّف الهيكلي وتحرير السوق وخصخصة القطاع العام، وهي السياسة التي شابها الكثير من أوجه الفساد في عمليات بيع أصول القطاع العام من مصانع وفنادق وغيرها بأسعار أقل حتى من سعر مساحة أرض المباني بالمتر في المناطق الكائن بها تلك الأصول.

  

تعمّقت تلك السياسات في العقد الأخير من حكم مبارك، التي شهدت تشكيل لجنة السياسات في الحزب الوطني الحاكم تحت رئاسة جمال مبارك نجل الرئيس المخلوع، والتي أدّت في نهاية المطاف مع عوامل أخرى من أبرزها انتهاكات الداخلية المصرية في مجال حقوق الإنسان إلى ثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011.

  

عزّزت الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي من سُدّة الحكم في الثالث من يوليو/تموز 2013 من توغُّل المؤسسة العسكرية المصرية في النشاط الاقتصادي، وبوجه خاص سوق المقاولات والإنشاءات، الذي بات للهيئة الهندسية للقوات المسلحة المصرية النصيب الأكبر منه بجانب الهيمنة على حصة كبيرة في بعض الصناعات لا سيما المتعلّقة بالبناء كصناعة الأسمنت وحديد التسليح، وغير ذلك الكثير من مظاهر النشاط الاقتصادي في مصر. في هذا السياق دار صراع مصالح كتوم بين رجال أعمال نظام مبارك السابق وبين المؤسسة العسكرية التي قلّمت أظافرهم، على نحو ما جرى بين محمد علي باشا مع المماليك، وبين النظام الناصري وطبقة كبار المُلّاك في العهد الملكي السابق، ثم بين نظام السادات وبين ما سمّاه بمراكز القوى أثناء ثورة التصحيح.

  

حيث تعود جذور ذلك التنافس الاقتصادي بين المؤسسة العسكرية وطبقة رجال الأعمال في العهد السابق إلى حدٍّ كبير إلى مرحلة المناورات وصراع النفوذ الخفي بين مبارك والمشير عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع الأسبق الذي ربط مصيره كما يقول الكاتب الأميركي روبرت سبرنجبورج بمصير مجموعة مصالح اقتصادية واجتماعية ضخمة، يحتاج مَن يرغب في التحرك ضدها إلى ثورة تصحيح بحجم تلك التي شنّها السادات في مايو/أيار 1971. [29]

    

الرئيس المصري الأسبق “حسني مبارك” وخلفه يمينا المشير “عبد الحليم أبو غزالة” وزير الدفاع آنذاك (مواقع التواصل)

     

حيث زادت نسبة حصة المؤسسة العسكرية من الاقتصاد المصري خلال نهاية سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي، أثناء فترة خمول نشاط القطاع الخاص، ليمتد نشاط “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية” التابع إلى القوات المسلحة المصرية إلى قطاعات كانت حتى ذلك الوقت مدنية تماما، واستطاع الجهاز الأخير خلال منتصف الثمانينيات أن يصبح أضخم تنظيم زراعي في مصر. [30] وبالاعتماد على مصادر التمويل الكافية والموارد البشرية غير المحدودة للجيش المصري، استطاعت إدارة الأمن الغذائي بجهاز مشروعات الخدمة الوطنية أن تغطي جميع أنحاء البلاد بمزارع ومنتجات الألبان، ومزارع الدواجن، والمزارع السمكية، ومزارع تسمين الماشية، وإنتاج وتوزيع وتسويق الخضر والفاكهة، وقد بلغت نسبة المنتجات الغذائية لإدارة الأمن الغذائي في هذا السياق عام 1985-1986 ما يُعادل نحو 18% من قيمة الإنتاج الغذائي الإجمالي في ذلك العام. [30]

  

ما يستدعي المقارنة التاريخية بين كلتا الدورتين التاريخيتين في عهد الأسرة العلوية وجمهورية يوليو 52 خلال عهود كلٍّ من عبد الناصر والسادات ومبارك هو ارتفاع حجم الدَّيْن الخارجي منذ وصول الرئيس الحالي للبلاد على نحو غير مسبوق في تاريخ مصر المعاصر، حيث ارتفع الدَّيْن الخارجي المصري في خمس سنوات بمعدل 130%، على نحو وضع مصر في موقف تفاوضي صعب للغاية أمام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وجعل الحكومة المصرية تخضع لشروطهما في تحرير أسعار صرف العُملة وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية، ويمكن أن نتوقّع باقي ما سيحدث على الأرجح خلال السنوات التالية من خلال تأمُّل ما جرى في الدورتين التاريخيتين السابقتين.

   

  

يخبرنا التاريخ أن المصير المُنتظَر لاستثمارات المؤسسة العسكرية المصرية، التي توسّع نشاطها في الاقتصاد المصري بشكل غير مسبوق في السنوات الماضية، في ظل هذا السياق من ارتفاع الدَّيْن الخارجي والداخلي وخضوع مصر لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هو تسرّبها إلى القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب والشركات متعددة الجنسيات، فهل يتكرر التاريخ مرة ثالثة؟