محمد ثابت-القاهرة
مرّت أمس الأحد ذكرى مئوية ميلاد الشيخ الراحل محمد صديق المنشاوي بما لا يليق بعلم من أعلام “القرآن الكريم” في العصر الحديث، فلم يتذكره في بلده مصر إلا القليل، كما امتد التجاهل إلى بقية العالم الإسلامي الذي بات مشغولا بنوائب الحاضر.
عاش الشيخ عمرا قصيرا نسبيا بالمقارنة بتأثيره الهائل، إذ ولد في قرية البواريك التابعة لمدينة المنشأة بمحافظة سوهاج (جنوب القاهرة) يوم 20 يناير/كانون الثاني 1919 على أرجح الآراء، ورحل يوم 20 يونيو/حزيران 1969 عن نحو خمسين عاما وأشهر عدة، بعد أن ترك تسجيلات، قال متخصصون إنها لأفضل من رتل القرآن الكريم في مخارج الحروف والطبقات وجودة الصوت.
وكما ترك الشيخ قراءات تليق بجلال القرآن الكريم، أبقى أيضا مواقف تليق بكرامة حافظ كتاب الله، ولعل من أبرزها رفضه مقابلة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في البداية، رغم ما اشتهر الأخير به من تعامل بقسوة مع رافضي أوامره، ولعل إجلال الأخير لكتاب الله هو ما منعه من التعرض للشيخ.
الخلاف مع عبد الناصر
ذهب أحد وزراء حكومة عبد الناصر إلى المنشاوي في أوج انتشار قراءات الأخير للقرآن الكريم، وأيضا في عنفوان دولة الرئيس الراحل، قال الوزير للشيخ “سيكون لك الشرف الكبير بحضورك حفلا يحضره الرئيس عبد الناصر”، فأجابه المنشاوي “لماذا لا يكون هذا الشرف لعبد الناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت محمد صديق المنشاوي؟”.
وعندما سُئل المنشاوي عن سبب رفضه التلاوة أمام عبد الناصر، قال “لقد أخطأ عبد الناصر حين أرسل أسوأ رسله إلي”، وامتنع الشيخ عن ذكر اسم مندوب الرئيس إليه.
سار المنشاوي على درب قدوته الشيخ محمد رفعت الذي عاش حياته تحت شعار “قارئ القرآن لا يهان”، ولذلك رفض المنشاوي الذهاب لمبنى الإذاعة المصرية عندما دُعي إلى حضور امتحان للقبول بها، قائلا “لا أريد القراءة بالإذاعة، لست في حاجة إلى شهرتها ولا أقبل أن يُعقد لي هذا الامتحان”.
ولما كانت شهرة الشيخ قد ذاعت في عموم مصر كلها، فقد أرسل مدير الإذاعة إليه مندوبا للحصول على التسجيل، حيث كان يقرأ في قريته خلال شهر رمضان الموافق لعام 1953، وتم اعتماده بالإذاعة بناء على هذا التسجيل، ثم ذهب إلى الإذاعة لاحقا لإكماله.
تسجيل القرآن للإذاعة
أحب عبد الناصر صوت المنشاوي، ولم ينسه في وفاة والده حسين عبد الناصر، فدعاه للقراءة في السرادق الذي أُعد للعزاء بالإسكندرية، وبعد انتهاء العزاء دعا عبد الناصر الشيخ للمبيت في الغرفة المجاورة له، وفي الصباح طلب منه أن يرتل عليه آيات قرآنية، ولم يلبث إلا دقائق حتى بكى عبد الناصر خشوعا لصوت الشيخ. وفي الجلسة نفسها طلب عبد الناصر من المسؤولين تسجيل القرآن الكريم كاملا مرتلا بصوت المنشاوي للإذاعة، وهو التسجيل الذي طاف العالم ويتداوله حتى الآن الصغار والكبار.
كما سجل المنشاوي القرآن الكريم مجوّدا أيضا، وله قراءة مشتركة مع الشيخين كامل البهتيمي وفؤاد العروسي للمصحف برواية الدوري، فضلا عن مئات القراءات في الحفلات والمناسبات المختلفة.
من صعيد مصر للعالمية
والد الشيخ محمد صديق المنشاوي كان أحد أعلام قراءة القرآن الكريم في صعيد مصر خاصة، وكذلك شقيقه محمود، وقيل جميع الأشقاء الرجال، ومن بعدهم الشيخ صديق محمود صديق المنشاوي نجل شقيقه.
أتم محمد صديق المنشاوي حفظ القرآن الكريم في عمر ثماني سنوات على يد أبيه، ثم ارتحل إلى القاهرة ليستكمل علوم القرآن الكريم على يد أبرز مشايخ الأزهر الشريف الشيخ محمد أبو العلا والشيخ محمد سعودي، وبعدها جاب صعيد مصر، فعرف بجمال الصوت وتقريب معاني القرآن في عموم مصر وخارجها.
قرأ المنشاوي لاحقا في معظم الدول العربية والإسلامية، حيث قرأ في المسجد الأقصى في القدس الشريف، وفي الكويت وليبيا والجزائر والعراق والسعودية وبريطانيا، وفي سوريا التي منحته وسام الاستحقاق، كما منحته إندونيسيا أحد أرفع أوسمتها.
خلال رحلة شهرته التي جابت الآفاق، أصيب الشيخ في العام 1966م بمرض “دوالي المرئ” الذي لم يمنعه من قراءة القرآن الكريم، حتى توفاه الله يوم الجمعة 5 ربيع الثاني 1389 هـ، الموافق 20 يونيو/حزيران 1969.
كرّمته مصر بعد وفاته في احتفالات ليلة القدر بمنحه وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، واختير قارئ القرآن الأول في القرن العشرين في عدد من الدول، كما عرف بلقب “القارئ الباكي”.
تزوج الراحل من زوجتين، أنجبت الأولى له 4 أولاد وابنتين، في حين أنجبت له الثانية 4 أولاد ومثلهم من البنات، علما بأنها توفيت أثناء أدائها فريضة الحج قبل عام من وفاة الشيخ.
قالوا عن المنشاوي
طُلب من الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي إبداء رأيه في صوت الشيخ، فقال “من أراد أن يستمع إلى خشوع القرآن فليستمع لصوت المنشاوي. إنه ورفاقه الأربعة (محمود خليل الحصري ومصطفى إسماعيل، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنَّا) يركبون مركبا، ويبحرون في بحار القرآن الزاخرة، ولن تتوقف هذه المركب عن الإبحار حتى يرث الله ومن عليها”.
أما الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب فقال عنه “في تقديري، إنه يمكن التعليق على أي قارئ من القراء إلا المنشاوي الذي يمثل حالة استثنائية يحار أمامها الذائق الفاهم، من يتأمل مخارج الحروف عنده يصعب أن يجد لها وصفا، وذلك لما منحه الله من حنجرة رخيمة ونبرة شجية تلين لها القلوب والجلود معا”.
ويستكمل عبد الوهاب رأيه في المنشاوي قائلا “ويتجلى ذلك عند ختامه للتلاوة، فتراه يستجمع كل إبداع التلاوة في آخر آيتين، بحيث يجعلك تعيش معه أشد لحظات الخشوع على الإطلاق! وما عليك إلا أن تتأمل استرساله ما بين السرعة والتلقائية العجيبة، كما في سورة الإسراء، وبين الهدوء وخفض الصوت كما في سورة العلق، عند قراءته (كلاَّ إنَّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى، إنَّ إلى ربك الرجعى)”.
المصدر : الجزيرة