لماذا يشن الحزب الشيوعي بالصين حملات شرسة على الإيغور؟

634 views Leave a comment
لماذا يشن الحزب الشيوعي بالصين حملات شرسة على الإيغور؟

  

بذريعة مكافحة التطرف الإسلامي، لقد شرع الحزب الشيوعي الحاكم في تنفيذ حملة واسعة من الاعتقالات ضد الأقليات العرقية بالإضافة إلى محاولة محو هويتها. ويظل هدف الحزب الأساسي هو القضاء على جميع بذور المعارضة هناك مرة واحدة وإلى الأبد وتحويل هذه المنطقة الضخمة إلى منصة مستقرة يمكن من خلالها توسيع مبادرة الحزام والطريق للهيمنة على آسيا الوسطى المجاورة.

  

أحد الأسرار المكشوفة في الصين هو وجود معسكرات “إعادة التأهيل السياسي” في شينجيانغ التي تستهدف تطويع المسلمين، ولكننا بدأنا أخيرا بفهم حجم هذه السياسة الجديدة من خلال الأبحاث والتقارير التي ظهرت في الآونة الأخيرة. فمنذ منتصف عام ٢٠١٧، تم بناء عدد هائل من مراكز الاحتجاز والسجون التي يبلغ عدد نزلائها المئات من الآلاف اليوم. وتجمع هذه المعسكرات بين الأساليب الوحشية لنظام “إعادة التعليم من خلال العمل” من أوائل الحقبة الشيوعية في الصين وبين أحدث آليات المراقبة والرصد ذات التقنية العالية.

 

على الرغم من أن معظم المعتقلين محتجزون دون توجيه أي تهم إليهم، يجد هؤلاء (ومعظمهم من الأويغور مع بعض الكازاخستانيين) أنفسهم معزولين عن العالم الخارجي في هذه السجون التي يقبعون فيها إلى أجل غير مسمى، ويتم الشك فورا بأي شخص منهم تظهر عليه علامات التقوى الدينية أو ممن لديهم اتصالات في الخارج، حتى إن التحدث باللغة الصينية بشكل ركيك قد يشكّل سببا للاعتقال. أما أولئك الأقل حظّا فقد يجدون أنفسهم عرضة للتعذيب والاستجواب اليومي. أما المحظوظون فعليهم الخضوع لجلسات “النقد الذاتي” وحفظ الشعارات الوطنية المضنية، المصممة لحثّهم على نسيان الولاء الديني لصالح الهوية الوطنية.

         

  

إن هذه المعسكرات ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة من الابتكارات السياسة القمعية التي اجترحها سكرتير الحزب الشيوعي تشن كوانجو منذ وصوله إلى مقاطعة شينجيانغ في عام ٢٠١٦. في رحلة قمت بها إلى شينجيانغ العام الماضي، رأيت العديد من هذه الابتكارات، مثل مراكز الشرطة التي توجد الآن عند كل تقاطع رئيسي، ونقاط التفتيش في كل مكان حيث يمر الصينيون بسهولة تامة فيما يصطف الأويغور قبل الخضوع لعمليات التفتيش المهينة، والتدريبات التي يجبر خلالها كبار السن من الرجال والنساء على حضور تدريبات مكافحة الإرهاب في الشوارع، في وقت يقوم التلفزيون والإذاعة بملاحقة الأويغور ليلا ونهارا لحثّهم على محبة الحزب الشيوعي وتحميلهم المسؤولية عن كونهم مواطنين من الدرجة الثانية!

 

كما رأيت أفراد الشرطة المدججين بالسلاح يوقفون الشبان الأويغور في الشوارع للتأكد من أن هواتفهم تحتوي على برامج التجسس الإجبارية التي تسمح للحكومة بالتلصص عليهم. ولقد تخلص العديد من الأويغور ببساطة من هواتفهم الذكية، خشية أن يُعتقلوا بسبب مقطع فيديو “متطرف” أو رسالة نصية مثيرة للريبة. في أحد الأيام في إحدى مدن الأويغور في كاشغر، شاهدت الجيش الصيني يغلق المدينة ويسيّر كتائب من جيش التحرير الشعبي الصيني وهم يردّدون هتافات حول إصرارهم على الحفاظ على “الاستقرار”.

 

أكثر من أي وقت مضى منذ استيعاب هذه المقاطعة في جمهورية الصين الشعبية، تبدو شينجيانغ وكأنها أرض أجنبية محتلة، حيث تظهر سياسات الحزب نظرة الدولة الصينية للأويغور على أنهم عدو داخلي. فوجود الأويغور في حد ذاته هو تذكير غير مريح عن الهوية البديلة لشينجيانغ باعتبارها الحافة الشرقية للعالم الإسلامي الناطق بلغة الترك، وهي حقيقة تفضل بكين أن تمحوها إن أمكن. قد لا يكون لدى الحزب أي نية حاليا لإزالة الأويغور فعليا من المقاطعة، ولكن جهوده لتهميش لغة الأويغور وإعادة كتابة تاريخ المنطقة بما يناسبه هي عملية تخدم أهدافا مماثلة لسياسة التطهير العرقي.

 

على الرغم من أن المنطقة نادرا ما شهدت علاقات عرقية متناغمة مثلما تزعم الدعاية الحزبية، فإن ما يحدث اليوم يمثل نقطة سوداء في تاريخها. لكن كيف انتهى الأمر بقيام دولة ثورية جاءت إلى السلطة بوعود بإنهاء جميع أشكال التمييز الوطني، باللجوء إلى مثل هذه السياسات المروعة؟ وماذا يمكن لأي منا خارج الصين أن نفعله للمساعدة في تغيير الأمور؟

 

 

تبدأ قصة سيطرة بكين على شينجيانغ في الخمسينيات من القرن الثامن عشر، خلال موجة من التوسع الإمبراطوري في عهد أسرة تشينغ الصينية، آخر أسرة إمبراطورية حاكمة في الصين. ولكن لأكثر من قرن من الزمان، لم تحكم الطبقة العسكرية الإمبراطورية من المنغول والمغول إلا بشكل غير مباشر، ولقد تم الإطاحة بها بين فترة وأخرى على يد المتمردين المسلمين المحليين. لكن البداية الحقيقية التي يؤرّخ لها القوميون الأويغور هي في ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما أصبحت شينجيانغ رسميا مقاطعة كاملة العضوية في الإمبراطورية، فشكّل هذا نقطة البداية الحقيقية للاستعمار الصيني. تولى البيروقراطيون الصينيون بعدها حكم المقاطعة، واستمر حكمهم الصارم لها حتى اندلاع الثورة المناهضة لحكم أسرة كينغ في ١٩١١–١٩١٢.

  

حاول الأويغور الحصول على الحكم الذاتي من الجمهورية الصينية التي حكمت من عام ١٩١٢ إلى عام ١٩٤٩، أحيانا مع السعي إلى الحصول على بعض الدعم الخارجي. لسوء حظهم، كان المصدر الواقعي الوحيد لمثل هذا الدعم هو الاتحاد السوفيتي. في العشرينيات من القرن العشرين، وفي إطار مساعي الكومنترن[1] لتأجيج الثورات في العالم الإسلامي، تبنّى البلاشفة فكرة تحويل شينجيانغ إلى جمهورية سوفيتية، ولكن مع تراجع المد الثوري الدولي، هيمنت مصالح الدولة السوفيتية الخاصة في آسيا على مقاربتها لمسألة شينجيانغ مما منع السوفييت من التضامن الحقيقي مع الأويغور.

  

في ثلاثينيات القرن العشرين، أدت ثورة واسعة النطاق إلى إنشاء جمهورية تركستان الشرقية الإسلامية في كاشغار، لكن موسكو فضلت الوقوف إلى جانب الحكم الصيني في حينه فساعدت في سحق الثورة. في الأربعينيات، دعم ستالين انتفاضة غربي تلك المنطقة مما أدى إلى ظهور ما يعرف بجمهورية تركستان الشرقية الثانية. كانت هذه نقطة مهمة في تاريخ القومية الأويغورية العلمانية الطابع والتي ظهرت في الاتحاد السوفيتي، لكن أولوية ستالين الوحيدة كانت الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية على المنطقة. وتم التضحية بتلك الجمهورية عندما أبرم ستالين صفقة مع ماو للسماح لجيش التحرير الشعبي بالسيطرة على شينجيانغ وذلك في عام ١٩٤٩.

   

  

بحلول الوقت الذي وصل فيه الحزب الشيوعي الصيني إلى شينجيانغ في عام ١٩٤٩، كان الحزب قد تخلى عن التزامه بحق تقرير المصير فيها، ولم يقدم سوى شكل محدود من “الحكم الذاتي الوطني”. ففي إطار رؤيته للصين كدولة أكثر مركزية بعد الثورة، كان على الحزب أن يسحق الشيوعيين المحليين الذين كانوا يصرون على إنشاء جمهورية أويغوريستان السوفيتية. قياسا على معايير الخمسينيات على مستوى العالم، كانت لا تزال السياسات القومية الخاصة بـالحزب الشيوعي الصيني تنطوي على جوانب تقدمية، من بينها التخلي علنا عن الشوفينية القومية لقومية الهان، واتباع سياسات التمييز الإيجابي في التعليم والعمالة، وتوفير التعليم باللغة الأصلية من خلال المستوى الثانوي. ومع ذلك، فإن التزامات الحزب باحترام الحقوق الوطنية في شينجيانغ ظلت ثانوية مقارنة بأهدافه الإنمائية والأمنية في تلك المنطقة الحدودية الحساسة على المستوى الجيوسياسي. ثم أتت الثورة الثقافية بعدها لتُجْهِزَ على أي شعور إيجابي تجاه الحزب قد يكون متبقيا بين السكان الأويغور.

 

خلال فترة الانفتاح المحدود في ثمانينيات القرن العشرين، استغل الأويغور الفرصة لاختبار حدود المسموح، فأطلق الناشطون نواة حركة طلابية صغيرة. لكن مع نهاية ذلك العقد، خسر مؤيدو الاعتدال المعركة داخل الحزب فانغلق المجال الضيق أصلا أمام المعارضة الأويغورية المنظمة وسط حملة القمع التي شُنّت على نطاق واسع في الصين في عام ١٩٨٩، فأحرقت الكتب وسُجن العديد من المثقفين البارزين. ثم تمت العودة إلى السياسات المتشددة مع سقوط الاتحاد السوفيتي في عام ١٩٩١، والذي فسره البعض في قيادة الحزب الشيوعي الصيني على أنه نتاج النزعات القومية الانفصالية على أطراف الاتحاد السوفيتي. منذ ذلك الوقت، كان الحل الوحيد لدى الحزب تجاه الشعور بالاستياء بين الأويغور هو تشديد سيطرته الأيديولوجية والانخراط في حملات دورية ضدهم.

 

في أعقاب أحداث الحادي عشر من (سبتمبر/أيلول)، قامت الصين بتصوير حملتها المتشددة ضد النزعات الانفصالية على أنها جزء من “الحرب العالمية على الإرهاب”، ووصلت بذلك إلى نوع من الاتفاق الضمني مع واشنطن. وقعت أعمال عنف إرهابية متفرقة في شينجيانغ وأماكن أخرى في الصين، والتي أدى بعضها، بشكل مأساوي، إلى مقتل مدنيين من قومية الهان. لكن مقاومة الأويغور في شينجيانغ لم تكن أبدا منظمة أو مسلحة بالشكل الذي تود الصين لنا أن نصدقه. ولقد ذهب ضحية الحرب الصينية على الإرهاب أيضا المعارضون المعتدلون من داخل الحزب مثل أستاذ الاقتصاد إلهام توهتي، الذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة قبل أربع سنوات لانتقاده التهميش المتعمد للأويغور في شينجيانغ.

 

صحيح أن بعض الأويغوريين اليائسين وجدوا طريقهم إلى صفوف الميليشيات الإسلامية في سوريا والعراق، أملا في الحصول على التدريب العسكري والتضامن الجهادي الدولي الذي يرون أنه ضروري من أجل نضالهم في شينجيانغ. لكن هذه الإستراتيجية غير فعالة ولا تشكل تهديدا حقيقيا لبكين، وبالتأكيد ليس بما يبرر حملة القمع ضد المسلمين اليوم. فالصين تسيطر على كافة نقاط الدخول والخروج في شينجيانغ، والدولة الصينية وحدها تستفيد من وجود المقاتلين الأويغور في ساحات القتال البعيدة مثل سوريا في نهاية المطاف.

  

 

يعلم العديد من المراقبين أن الحكم الذاتي في إقليم شينجيانغ محدود جدا، إذ يحتفظ المركز بحق النقض على أي تشريعات محلية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالحقوق الثقافية واللغوية التي تظل منذ وقت طويل حبرا على ورق. ومع ذلك، يميل مفكرو الحزب إلى تبني وجهة النظر المعاكسة، إذ يعتقدون أن هذا النظام يمنح الأقليات الكثير من الاستقلال الذاتي. في الفترة ما بين عامي ٢٠١١-٢٠١٢، ظهر جدل حول إصلاح نظام الجنسية الرسمي في الصين، حيث طرح البعض فكرة إلغاء المناطق ذاتية الحكم، أو حتى الهويات القومية نفسها. وقد عكست هذه المقترحات ما يبدو أنها وجهة نظر واسعة الانتشار في صفوف نخبة أعضاء الحزب الشيوعي، ومفادها أن الاستياء هو فقط نتيجة للأفكار المترسخة في رؤوس الناس، وليس السياسات على الأرض. أي إنه بالنسبة إليهم، فإن بتغيير تلك الأفكار سوف يؤدي ببساطة إلى معالجة استياء الناس!

 

كانت المقترحات جذرية للغاية بالنسبة إلى الحزب فلم يؤيدها، لكن النهج المتبع اليوم في شينجيانغ يعكس نفس نمط التفكير الكامن ذلك، حيث تتم محاولة إنهاء الصراع العرقي من خلال القضاء على أي حيّز للتعبير عن هوية القومية الأويغورية.

 

إن القمع في شينجيانغ شديد لدرجة أنه ليس هناك مجال لأن تظهر مقاومة حقيقية للسياسات الجديدة في أي وقت قريب، كما لا يجب أن نتوقع ظهور معارضة ضدها من داخل الحزب في بكين. ولكن خارج الصين، يتساءل الكثيرون عما يمكنهم فعله لمساعدة الأويغور. وقد التف الأويغور في الشتات في جميع أنحاء العالم حول قضيتهم في الآونة الأخيرة، فيما بذل الصحفيون والباحثون جهودا تستحق الثناء لإبراز الحقائق المزعجة عن اضطهاد هذا الشعب.

 

ماركو روبيو (رويترز)

     

في واشنطن، أعاد السناتور ماركو روبيو تسليط الضوء على مسألة الأويغور ومكانها في سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين، من خلال الإدلاء بتصريحات علنية للغاية حول معسكرات إعادة التعليم واحتجاز أفراد أسر موظفي إذاعة آسيا الحرة من قبل الصين. من دون شك، سوف يرّحب الكثير من الأويغور بتدخل روبيو، ولسبب وجيه، فهم يرون أنفسهم ضحايا للشيوعية إذ تم اضطهادهم من قِبل دولتين قمعيتين ضخمتين وصفتا نفسيهما يوما بالشيوعية. كما أيدت الكثير من حركات اليسار الدولي فكرة أن الاتحاد السوفيتي والصين هما مثالان على الاشتراكية في التطبيق، وبالتالي يجب الدفاع عنها بأي ثمن. لذا، بغياب أي تضامن معهم من قِبل اليسار، يميل الأويغور في المنفى بشكل طبيعي إلى الانجذاب نحو اليمين المناهض للشيوعية.

  

المأساة هنا هو أن هذا الانجذاب يجعله من السهل جدا على بكين تصوير استياء الأويغور على أنه نتاج لمؤامرة غربية. على الرغم من أن هذا الزعم انتهازي وماكر، فإنه لسوء الحظ مقنع لبعض الصينيين مما يؤدي إلى حلقة مفرغة تبعدنا عن محاولة إيجاد حل عادل في شينجيانغ. اليوم، في ضوء عودة مسألة شينجيانغ إلى الاهتمام الدولي، فإن هذه المعادلة تهدد بإعادة إنتاج هذا المأزق. هذا لا يعني أن الحكومات الأجنبية يجب أن تتردد في انتقاد سوء معاملة الصين للأقليات فيها، لكن روبيو تجاوز حدود النقد فقام بالربط بين محنة الأويغور والأهداف الجيوسياسية الأميركية في آسيا. في كتابه الموجه إلى السفير الأميركي في بكين، طلب روبيو منه أن ينظر في القضية لأن “الحملة في إقليم شينجيانغ تمس بمجموعة من المسائل ذات الأهمية الحاسمة لجهود الولايات المتحدة من أجل تأمين حرية وانفتاح منطقة المحيط الهندي والهادي”. ويقود روبيو حاليا جهودا لزيادة الضغط على الصين في جميع المجالات، وهي خطوة تأتي في أعقاب ظهور تصريحات من واشنطن هي الأكثر صرامة حول الصين منذ اعتراف الولايات المتحدة رسميا بالجمهورية الشعبية الصينية عام ١٩٧٩.

 

في الحقيقة، فإنه في إطار الجدل الواسع حول مسألة صعود الصين، فإن بعض الأصوات التقدمية التقليدية تعتقد الآن أنه ليس أمامنا أي خيار سوى أن نضع جانبا “معاداة الولايات المتحدة الانفعالية”، وأن تحتضن الهيمنة الأميركية العالمية، بحجة أن النظام الاستبدادي الصيني هو من السوء بحيث إنه مع كل زيادة في نفوذه في الشؤون العالمية يجب علينا أن نتحد أكثر وأكثر لمقاومته. لكن هذا الخطاب في الغرب لن يساعد أي أحد في شينجيانغ، لأن ربط الظلم هناك مباشرة بمحاولة واشنطن استعادة هيمنتها المتراجعة في آسيا لن يؤدي إلا إلى تقوية عزم الحزب الشيوعي على المضي في حملته، وهذا يعني أن معسكرات إعادة التعليم في شينجيانغ يمكن أن تتحول بسرعة إلى معسكرات اعتقال لجميع السكان الأويغوريين، ولا يمكن تصوّر هول ما قد تجلبه حرب فعلية بين الصين وأميركا عليهم.

       

طفلة من الإيغور ترفع صور أقارب لها في مسيرة التنديد بإجراءات الصين في إقليم تركستان الشرقية (الجزيرة)

     

في هذه الأثناء، قد يميل البعض في اليسار إلى اتباع نهج معاكس وتجاهل سياسات الصين الداخلية والتركيز بدلا من ذلك على مكافحة نزعات الولايات المتحدة العسكرية. لكن التخلي عن انتقاد الصين سيكون بمنزلة التهرب من المسؤولية الأخلاقية التي تتطلب إدانة الاضطهاد ومن المسؤولية السياسية لإيجاد حلول له. فالاستسلام اليساري لاحتكار اليمين للخطاب حول شينجيانغ هو أحد الأسباب التي جعلتنا ندخل في هذه الحلقة المفرغة في المقام الأول. إذن نحن بحاجة إلى البحث عن طريقة للخروج منه.

 

إن معظم الناس الذين يطّلعون على مسألة شينجيانغ يتبنون إما الدعم المطلق للولايات المتحدة وإما الإدانة المطلقة لها. هنا قد يقول المرء إن لعبة روبيو لها مخاطرها ولكن على الأقل فإنه يقول الشيء الصحيح عن الأويغور. لكن لا يكفي ببساطة انتقاد السياسيين اليمينيين عندما يخطئون أو التصفيق لهم عندما يصيبون. فنحن نحتاج إلى فصل قضية شينجيانغ عن المصالح الغربية في آسيا، ووضعها في إطار مختلف يؤكّد على الرفض الدولي للعنصرية والتمييز. الأمر ليس فقط أن الدفع نحو الحرب لن يؤدي إلا إلى مفاقمة الأمور بالنسبة إلى الأويغور، أو أن الانسجام مع النفس أخلاقيا هو هدف سام، بل هناك أيضا أسباب عملية ملحة تجعل هذا النهج المتوازن ضروريا.

  

إنه لا يوجد أي معنى في الدفع نحو إجبار الصين على احترام المعايير الدولية عندما لا تكون تلك المعايير موجودة أصلا، فلقد أصبح التعصب ضد الإسلام هو المعيار السائد في جميع أنحاء العالم، مع مجموعة متنوعة من برامج “معالجة التطرف” العقابية الاضطهادية التي تشبه من حيث الرؤية، إن لم يكن في الحجم، البرامج المماثلة التي تطبقها الصين. إنه من خلال قراءة كتاب جيم والفريز الأخير عن فرنسا مثلا، يمكننا تمييز أوجه الشبه بين إجراءات فرنسا وبين التدابير التي يجري تنفيذها في شينجيانغ، مثل حظر ارتداء أنواع معينة من الحجاب، وتشجيع المواطنين على البحث عن علامات التطرف في تصرفات عادية مثل تغيير شخص ما لعاداته الغذائية. فبالفعل، في عام ٢٠١٥، ذهب رئيس الوزراء الاشتراكي مانويل فالز إلى حد إجراء مشاورات للتثبّت من مدى دستورية إنشاء مراكز احتجاز لأكثر من عشرة آلاف شخص على قائمة الشرطة للمتطرفين المشتبه بهم.

  

 

هذا الكُره المعولم للإسلام يشكّل ضربة مزدوجة للأويغور، فهم تقريبا جميعهم مسلمون، وقد اختبروا فوبيا الإسلام في الغرب، مما يجعله أكثر صعوبة بالنسبة إليهم طلب اللجوء والبدء في حياة جديدة طبيعية خارج الصين. لكنه يوفر أيضا بيئة دولية مثالية للصين للاستمرار بقمعها في شينجيانغ. في الحقيقة، لا يمانع القادة الغربيون معاملة كل المسلمين كإرهابيين، مثلهم مثل المسؤولين الصينيين في شينجيانغ. هذا هو المبدأ الذي يقف وراء حظر المسلمين من السفر إلى الولايات المتحدة الذي حاول تمريره دونالد ترمب، وهي سياسة لا يزال يناضل من أجل فرضها في المحاكم الأميركية (المترجم: أيّدت مؤخرا المحكمة العليا قرار ترمب حظر السفر من ست دول ذات أغلبية مسلمة). كما يقع هذا التفكير في صلب الدفاع الإسرائيلي عن مجازرها في غزة، ويشكّل ذريعة مشينة لم يتردّد ترمب ورئيس الوزراء الأسترالي مالكوم تورنبول يوما في استخدامها لتبرير سياساتهم على الساحة العالمية. إذن على الناس الذين يدافعون عن حقوق الأويغور اتخاذ موقف قوي ضد المعاملة اللاإنسانية للمسلمين من قِبل الغرب وحلفائه أيضا.

   

تتيح لنا هذه المقاربة أيضا الانخراط مع المواطنين الصينيين العاديين من قومية الهان في جمهورية الصين الشعبية. فلقد أدت الهجرة من الداخل إلى نمو عدد السكان الصينيين في شينجيانغ إلى مستوى التكافؤ مع السكان الأويغور الأصليين فيها اليوم، وهذا يعني أن أي صراع -سواء كان ذلك من أجل الاستقلال أو الحكم الذاتي الموّسع أو ببساطة المساواة في الحقوق- سوف يعتمد بالضرورة على الدعم الشعبي الصيني. وفي حين أنه من الصعب علينا التحدث إلى الصينيين في شينجيانغ، فإنه يمكننا التحدث إلى أولئك الموجودين في الغرب.

 

لدى مواطني جمهورية الصين الشعبية أولئك مشاعر مختلطة حول قضية شينجيانغ، فهم يعترفون أن الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني شي جين بينغ يتّبع مقاربة قاسية ولكنهم يعتقدون أنه على حق فيما يتعلق بالتدخل الغربي في شؤون الصين. كما أنهم يثنون على القوة المتزايدة للدولة التي بناها الحزب التي ساهمت في تقليل العنصرية ضد الصينيين التي كانوا يختبرونها عندما يسافرون إلى الخارج. إذن، لإقناع هؤلاء الناس بمشاطرتنا غضبنا إزاء الوضع في شينجيانغ، علينا أن نقنعهم بأن هذا الغضب يعكس الالتزام بمناهضة العنصرية والعدالة للجميع، ولا يعكس حملة لإضعاف الصين.

    

يجب أن يقترن الدفاع عن حقوق الأقليات بموقف حازم ضد الحروب التي تشجعها السياسة الخارجية الغربية، والتصميم على إنهاء الكراهية ضد الإسلام

 

رويترز

    

في الوقت الحالي، فإن قدرتنا على القيام بذلك مهددة بسبب موقف الغرب العدائي تجاه الصين والصينيين، والذي يشبه كثيرا الارتياب المرضي الذي تنظر به الحكومة الصينية إلى الأقليات العرقية لديها باعتبارها خطرة بطبيعتها. فلقد أدت حملة التخويف حول التدخل الصيني المزعوم في الديمقراطيات الغربية بالأجهزة الأمنية لديها إلى تصوير كافة المهاجرين الصينيين كأنهم طابور خامس في مجتمعاتهم. إن الاستمرار في هذا الطريق سيؤدي إلى إنهاء أي إمكانية للانخراط مع الصينيين العاديين في موضوع حساس مثل شينجيانغ.

 

من الصعب أن نتوقع من أي شخص في الصين أن يقف ضد العنصرية والتمييز الموجود في مجتمعه، لأنه إذا أردنا أن نطلب من الصينيين القيام بذلك، علينا أن نُظهر لهم أولا أننا نرغب في فعل الشيء ذاته أنفسنا. في الوقت الذي تلوح فيه في الأفق مواجهة بين الولايات المتحدة والصين، ينبغي لأولئك الذين يدافعون عن الأويغور في الصين أن يكونوا مستعدين لفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى الصينيين الذين يقعون ضحايا التمييز والاضطهاد في الغرب.

  

من الواضح أن تحويل هذا الموقف إلى بديل سياسي عملي مقنع يتطلب جهدا حقيقيا. إنه لن يكون من السهل بناء تحالف تقدّمي حول مسألة شينجيانغ لديه الوزن الكافي لمنافسة الصقور المناهضين للصين. في الوقت الحالي، قد يتشجع بعض الأويغور من إدانات واشنطن لبكين، لكنهم يعرفون أيضا، من التجربة المريرة التي مرّوا بها، أن الحكومات الأجنبية التي تتبنى هذه القضية مستعدة أن تسقطها بالسرعة نفسها إذا تحولت أولوياتها إلى مكان آخر، وهذا سبب إضافي لصياغة مقاربة لا تكون عرضة للرياح السياسية المتقلّبة في واشنطن.

 

يجب أن يقترن الدفاع عن حقوق الأقليات الصينية بموقف حازم ضد الحروب التي تشجعها السياسة الخارجية الغربية، والتصميم على إنهاء الكراهية ضد الإسلام، واليقظة تجاه التمييز ضد الصينيين في مجتمعاتنا المحلية. فربط مسألة شينجيانغ بهذه المعادلات لن يشتت الانتباه، بل سوف يكون فرصة لإحراز التقدّم.

_____________________________________________________________________________________________________________

الهوامش:

[1] منظمة دولية شيوعية مقرها في موسكو أُسّست في عام ١٩١٩ ودعت إلى المحاربة بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك القوة المسلحة، من أجل إسقاط البرجوازية الدولية وإنشاء الجمهورية السوفياتية الدولية.

 

ترجمة: كريم طرابلسي

(الرابط الأصلي)