هل خطر ببالك، أن هناك تأثيرا كبيرا تخلفه حياة آبائنا العاطفية على حياتنا العاطفية الخاصة، وأن تاريخ أجدادنا أو جداتنا يمكن أن يظهر من جديد، كيف نفسر هذا “الموروث الخفي”؟
خلصت دراسة للمختصة الفرنسية في علم النفس، ماري-جونوفياف توما، إلى أن هناك تأثيرا كبيرا تخلفه حياة آبائنا العاطفية على حياتنا العاطفية الخاصة.
لكن الباحثة عادت لتؤكد في ختام الدراسة أنه “ضمن إطار عملي، أقابل العديد من الأزواج الذين تنتهي علاقتهم بالطلاق والانفصال بسبب ما توارثوه عن آبائهم، ولكن ما يسعدني أننا بإمكاننا اليوم العمل على هذا الموروث، أي أن نحد من تأثيره”.
“الموروث الخفي”
وأكدت المختصة خلال حوار أجرته معها أوفيلي أوستيرمان ونشرته صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية أن تاريخ أجدادنا أو جداتنا يمكن أن يعود ويظهر من جديد، حيث تتولد بعض الصلات بيننا وبين تاريخ آبائنا والتي نخاطر بإعادة صياغتها. لكن، كيف نفسر هذا “الموروث الخفي”؟
في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 2018، توصلت دراسة، أجرتها جامعة أوهايو بالولايات المتحدة، إلى اكتشاف علاقة متبادلة بين عدد شركاء الأمهات وبين أطفالهن. ولتوضيح النتائج التي توصلوا إليها، قام المشرفون على هذه الدراسة بنقل سلوكيات معينة من الأم إلى الأطفال.
هل يؤثر ماضي أبوينا العاطفي علينا (بيكسابي) |
موروثات غير واعية
أكدت ماري-جونوفياف توما أنه بغض النظر عن الموروث الجيني، فإن آبائنا ينقلون إلينا أيضا موروثات أخرى غير واعية، خصوصا وأن العقل اللاواعي يعتبر جزءا من الموروث العائلي، وهذا يشمل جميع التجارب التي مر بها أسلافنا سابقا، والتي تعود بنا على الأقل إلى أيام أجداد أجدادنا. ويُطلق على ذلك “الموروث العابر للأجيال”، وبعبارة أخرى، الموروث الذي لا نعرفه والذي يظل طي الكتمان.
أفعال أسلافنا
لكن، يختلف ذلك من جيل إلى آخر، بحسب ما نعرفه وبحسب ما تمت روايته، أو بحسب ما مر علينا وعايشناه. ويؤكد ذلك أننا متعلقون بكل هذه المعلومات التي تتداخل في خياراتنا، وخاصة في خياراتنا المتعلقة بالحياة العاطفية.
وفي توضيحها لهذه النقطة، أشارت المختصة الفرنسية في علم النفس إلى أن هناك تأثيرا أبويا لا يمكن إنكاره، حيث استحوذ ذلك على اهتمام علم النفس الكلاسيكي أكثر من أي موضوع آخر.
وينقل لنا الوالدان تاريخهما العاطفي في شكل رسم بياني يضفي طابعا خاصا على طريقة استجابتنا للإغراءات والحب. ونعتمد، بطريقة أو بأخرى بشكل واعي، على ما ورثناه من أفعال أسلافنا أو من شخصياتهم كمثال، وأحيانا، نعمل على البحث عما يخالف ما ورثناه عن آبائنا.
“الولاء الخفي”
وبغض النظر عن كل هذا، فنحن نقع فيما يطلق عليه “الولاء الخفي”، ما يعني أنه كي يثبت الطفل وجوده داخل العائلة، يعمل على أن يشبه والده أو أمه، أو يقوم بنسخ ما يفعلانه، ويندرج ذلك ضمن نظام العقل الباطن.
واستشهدت بمقولة عالم النفس السويسري، كارل غوستاف يونغ، والأب الروحي لعلم النفس التحليلي، التي جاء فيها أن “كل ما لم يتم الكشف عنه يصبح بمثابة القدر”. كما عرضت المختصة مقولة شهيرة لمبتكرة “علم النفس المتعلق بعلم الأنساب” (بسيكوجينيالوجي)، آن شوتزنبرغر، قالت فيها: “نحن مُوجّهون عبر أسلافنا”، ما يعني أن هنالك شيئا ما يتصرف في أحاسيسنا العاطفية موجود في داخلنا ودون علمنا.
يمكن لفرد من العائلة أن تربطه علاقة بشخص لا يشبه النموذج العائلي الذي في مخيلته (مواقع التواصل الاجتماعي) |
عواطف آبائنا
ومهما فعلنا، فإن مشاعرنا ليست بمنأى عن التأثير الذي توارثناه من عواطف آبائنا. فعندما ينتابنا إحساس بالحب، ترتبط الصعوبات التي تظهر فيما بعد خلال تأسيس علاقة ما بما ورثناه من العائلة أساسا.
علاوة على ذلك، يمكن لفرد من العائلة أن تربطه علاقة بشخص لا يشبه النموذج العائلي الذي في مخيلته، وهو بذلك يتحرر قليلا من موروث والديه العاطفي.
وتعتمد نتائج العلاقات على عدة عوامل. مع ذلك، وعندما نشعر بأن هناك “انسدادا”، وأننا عالقون وغير مرتاحين في علاقاتنا، فإننا ننظر إلى كيفية تصرفنا تجاه الشريك. وإذا لم يكن ذلك كافيا، فنحن ننظر إلى أجدادنا ومن يمكنه تقديم توضيحات.
إمكانية التحرر!
وفيما يتعلق بإمكانية التحرر من هذا التأثير وتأسيس علاقة مع الطرف المقابل خلافا لما ورثناه عن والدينا، ذكرت المختصة الفرنسية أن ذلك ممكن، فنحن في النهاية أحرار. ولكن الحرية الحقيقية تتمثل في أن نتشارك في بناء نموذج عائلي جديد يتناسب مع تطلعات الزوجين، أو أن نكون على دراية بما يجب أن نختاره لعائلتنا الحالية، حتى وإن كان ذلك يتضمن اختيارات سبق وأن تعرض لها آبائنا في حياتهم الخاصة. ولكن الحل يكمن في النهاية في المصالحة مع موروثنا كي نعتبر منه ونخفف من وطأته.
الأحداث لا المزاج
في سياق آخر، أشارت المختصة الفرنسية إلى أن البعض يلقي باللوم على عاتق الأبوين عندما يفشلون في تأسيس حياتهم العاطفية، ولكن في الحقيقة لا يتحمل الآباء مسؤولية ذلك، حيث أنهما قاما في النهاية بدورهما بإنجاز المطلوب منهما.
كما لا يمكن أن نعتبر الوالدين مذنبين ونتملّص نحن من مسؤولية الأمور التي لم نستطع تحقيقها أو عيشها. وعوض الاهتمام بالإخفاق، علينا أن نركز على الثقل التاريخي والمنظومة الأسرية. بعبارة أخرى، لا يجب النظر إلى المزاج بل إلى الأحداث، وما يمكن استخلاصه منها بما يصب في صالح تحقيق الانسجام داخل المنظومة الأسرية.
البعض يلقي باللوم على عاتق الأبوين عندما يفشلون في تأسيس حياتهم العاطفية، لكن في الحقيقة لا يتحمل الآباء مسؤولية ذلك (مواقع التواصل الاجتماعي) |
الولاء التام للأسرة
كما يمكن أن نمر بقصة مماثلة لعم أو لعمة لم يرزقا بالأطفال، أو الزواج من امرأة تعيش نفس التركيبة الأسرية، أو مقابلة شريك حياتك ضمن نفس الظروف التي جمعت بين والديك مع تكرر بعض الأحداث.
هناك سيدة لها طفل من كل واحد من أزواجها الثلاث. ومرت بالوضعية ذاتها داخل أسرتها، حيث كان لها إخوة من آباء مختلفين. كما نجد أيضا نوعا من التطابق حتى في تاريخ الولادة. ويعني ذلك في حقيقة الأمر أننا دائما نثبت “الولاء التام للأسرة”.
من المؤكد أننا نؤسس العديد من العلاقات، كما أن هناك منا من انتابه الشعور بالإخفاق عند عدم القدرة على إنجاب الأطفال مع تمنيه حصول ذلك. و”في هذا الموضوع، أتذكر جيدا قصة زوجين كانت لكل منهما تجربة سابقة في الزواج قبل أن يتعارفا، لكنهما لم ينجبا الأطفال.
وكان كلاهما قد مر بنفس التجربة الأسرية، حيث أن الزوج عندما كان في سن 15 أو 16 علم من أمه أنها كانت متزوجة ولها أطفال لا يعرفهم والأمر سيان بالنسبة لشريكة حياته التي أخبرتها شقيقتها وهي في سن 22 بأن أباها رُزق بطفلته الأولى في بلاد أجنبية”.
المصدر : لوفيغارو