د. طارق قابيل*
شقي أم سعيد؟ يتمنى جميع البشر أن يكونوا سعداء، ويبحث الجميع عن السعادة بكل ما أوتوا من قوة، ويتخيل البعض أن السعادة تكمن في العائلة، أو في الثروة، أو في السلطة، أو في الحب.
فأين تكمن السعادة؟ هل هي شعور بالرضا، أم شعور نفسي مستقر في الدماغ، أم هي مسألة وراثية، أو قدر حتمي تحمله الجينات الوراثية؟
وجد العلماء أن الرابطة ضعيفة بين السعادة وبين ما يعتقد معظم الناس أنه يجلبها ومن ذلك المال، فدخلُ الألماني ضعف دخل الإيرلندي، لكن الإيرلنديين أسعد. أما اليابانيون وهم من أكثر شعوب العالم ثراء، فكانوا من بين الدول الأقل سعادة. وتكشف الدراسات العلمية أن الأشخاص الذين يربحون جائزة اليانصيب يشعرون بالسعادة لأشهر فحسب، يعودون بعدها إلى الحالة السابقة.
ينطبق الأمر عينه -وفق علماء ألمان- على المتزوجين الذين يشعرون بسعادة لفترة معينة، ثم يعودون بعدها إلى الحالة السابقة.
ووفق بعض الدراسات العلمية، فإن أحداث الحياة ليس لها سوى أثر متواضع وعابر على الشعور بالسعادة عند الأفراد، إذ يظهر الباحثون أن 10% فقط من فوارق الشعور بالسعادة بين الأشخاص تعود إلى متغيرات الحياة وظروفها، “وكأن الأشخاص لديهم معدل ثابت من السعادة يعودون إليه نسبيا مهما فعلوا”، وفق المتخصص في السلوكيات بجامعة نيوكاسل البريطانية دانيال نيتل.
تتعدد المفاهيم التي وضعت حول مفهوم السعادة، فمنهم من عرفها على أساس بيولوجي بحت، أي على أنها تنتج عن هرمون معين، ومنهم من يرى أنها تتعلق بالحالة المزاجية للشخص، التي تتأثر مباشرة بالعوامل الخارجية، كتأثير الآخرين والظروف المادية والعائلية والاستقرار العام في الحياة.
ويقصد بمصطلح السعادة بمفهومها العام أنها ذلك الشعور الداخلي بالبهجة والسرور، بحيث ينعكس على الحالة النفسية والمزاجية للشخص، مما يجعله ينظر بإيجابية إلى الحياة والأشياء، أي أنها عبارة عن ذلك الإحساس الذي يعتبر مضادا للحزن والكآبة، وبعيدا كل البعد عن التشاؤم والمشاعر والطاقات السلبية.
وكانت دراستان نشرتا عامي 2009 و2013 قد اقترحتا أن جين “ديسك1” (DISC1) يؤثر على الشعور بالمتعة عند تفاعلنا مع الآخرين، في حين أن الأشخاص الأكثر عرضة لحالات عدم الشعور بالسعادة يكون لديهم عادة طفرات في هذا الجين.
شكل يوضح الخلية (مواقع التواصل الاجتماعي) |
قياس السعادة
تقيس المفوضية الأوروبية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي مقدار سعادة الأوروبيين، ويتكرر في استطلاعات الرأي حصول الدانماركيين على المرتبة الأولى في قائمة الشعوب الأكثر سعادة، ليس في أوروبا فحسب، بل على المستوى العالمي.
وعندما سألت المفوضية عام 2008 مواطني الاتحاد الأوروبي عما تتوقف عليه سعادتهم، قال أغلبهم إن الصحة أهم شيء. لكن الدانماركيين وحدهم ذكروا أن الشيء الأهم بالنسبة لسعادتهم هو الحب.
وفي عام 2011 سألت مؤسسة ألمانية مواطنين من 13 دولة عن نظرتهم إلى المستقبل، فحل الدانماركيون في المرتبة الأولى بفارق كبير، إذ قال 96% منهم إنهم سعداء في حياتهم. وعندما نشرت الأمم المتحدة لأول مرة عام 2012 تقريرها عن السعادة في العالم، جاء الناس في أفريقيا كأقل البشر سعادة، بينما كان الناس في شمال أوروبا الأكثر سعادة. أما الأسعد على الإطلاق في العالم فكان الدانماركيون أيضا، وتكررت نفس النتيجة عام 2013.
وأكدت استطلاعات الرأي أنه لا يوجد شعب أكثر سعادة من الشعب الدانماركي، وهناك محاولات عديدة لمعرفة سر السعادة، وبشكل خاص سر سعادة الدانماركيين. وجاءت التفسيرات بأن الأسباب تكمن في الرفاهية التي يتمتعون بها، والرعاية التي يلقونها من دولتهم، وكذلك تصالحهم مع أنفسهم وتسامحهم مع غيرهم.
وتظهر الدراسات العلمية التي أجريت على التوائم المتشابهة الذين يمتلكون الجينوم نفسه والمعلومات الوراثية ذاتها، أن لديهم الميل عينه إلى الشعور بالسعادة مهما اختلف مسارهم الشخصي. كما أن معدل الشعور بالفرح شبه محدد منذ الولادة.
وأراد باحثون من مركز جامعة “وارويك” معرفة سر السعادة التي يحظى بها سكان الدانمارك، وتفوقهم على دول أوروبية مماثلة عالية الناتج المحلي الإجمالي بانتظام في التمتع بالسعادة، فوجدوا أنواعا عديدة من الأدلة تشير إلى مستويات عالية من الرضا عن الحياة قد لا تكون مرتبطة بمستوى المعيشة، وإنما ترتبط أكثر بالجينات الوراثية.
وأضاف عالمان بريطانيان في الجامعة ذاتها هما أويجينيو بورتو وزميله أندرو أوسوالد إلى تلك التفسيرات؛ نظرية جديدة تقول إن الدانماركيين يتمتعون بجينات مختلفة.
كروموسوم يحتوي على المادة الوراثية (لوكافيس/دريمز تايم) |
وقارن الباحثان بورتو وأوسوالد جينات عدة شعوب مع جينات الدانماركيين، وخرجا بنتيجة أن البلد الذي لا يشعر شعبه بالسعادة يوجد فارق كبير في جيناته مع جينات الشعب الدانماركي، حسب زعم الباحثين.
ووجدا أنه كلما زادت المسافة الجينية بعدا عن الدانماركيين، انخفضت معدلات السعادة والرضا عن الحياة. بمعنى آخر، أنه كلما ازداد الاقتراب الجيني بين شعب دولة ما وشعب الدانمارك، ازدادت سعادة هذا الشعب.
وأشار الباحثان إلى أن هذه النتائج “يجب التعامل معها بحذر”، وقال العلماء إنه يجب القيام بمزيد من البحث لفهم أسباب الرفاهية على المستويات الدولية.
وحسب صحيفة “زود دويتشه” فإن الباحثيْن البريطانيين ينبهان إلى وجوب التعامل بحرص مع فرضيتهما، ونقلت عن بورتو قوله “إننا لسنا متأكدين 100% من وجود علاقة بين الجينات الوراثية والسعادة”.
_________________
* أستاذ التقنية الحيوية المساعد في جامعة “الباحة” السعودية.
** منشور بتصرف من مقال للكاتب على موقع منظمة المجتمع العلمي العربي.
المصدر : منظمة المجتمع العلمي العربي