عاطف دغلس-أريحا
ما أن حط بقدميه فوق الأرض وترجَّل من مركبة صديقه حتى اصطدم الشاب محمد فوزي بلافتة إرشادية كتب عليها باللغات الثلاث (العربية والعبرية والإنجليزية) “محمية طبيعية.. واد القلط”، مضافا إليها وبخط أقل وضوحا “ضابط ركن” منطقة “يهودا والسامرة” (الضفة الغربية) وإرشادات أخرى.
كان ذلك قبل نحو ست سنوات، حين زار محمد (37 عاما) وأصدقاؤه الوادي الواصل بين مدينتي القدس وأريحا، ما جعله يواظب على زيارة سنوية للمكان حين يقدمُ من غربته لوطنه فلسطين زائرا.
من قريب عادت إسرائيل لتُروج وعبر منصات إلكترونية دولية للتخييم بالصحراء الفلسطينية، كحال موقع “إير بي أن بي” الأميركي الذي نشر إعلانات لمنازل للتأجير داخل مستوطنات الضفة الغربية، ولاحقا أزال تلك الإعلانات استجابة لضغوط مارستها الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها (بي دي أس).
لم تثبط اللافتة من عزم محمد ورفاقه، ففي الطريق ما هو أخطر وأشد مرارة، حيث حفت جوانبه لافتات إسرائيلية تُروج للمكان سياحيا، وكذلك تفعل مستوطنات شيدت على قمم الجبال، فأباحت الوادي لسياح أجانب ومستوطنين افترشوا أرضه وأرخوا أرجلهم بين مياهه الجارية، وكأنهم أصحاب الأرض.
ورغم سفره المرهق لا يُلغي محمد زيارته لوادي القلط، ولا تتعبه عشرات الكيلومترات يقطعها من مدينته نابلس بشمال الضفة الغربية للوصول إلى هناك، ويقول إنه يحب المكان كثيرا ولا يمل زيارته.
عند البوابة الرئيسية طلب من محمد ورفاقه أن يفصحوا عما إذا كان بحوزتهم فحم أو أي مادة قابلة للاشتعال، فهذا ممنوع، كما ألزمهم حارس الأمن الإسرائيلي بالتقيد بالأوقات المحددة والتعليمات المطلوبة، وحذرهم من التعرض لأي نبات أو حيوان.
اكتشاف المكان
بالنسبة لمحمد وصحبه فذلك ليس مهما، فهم يحملون ما خفَّ وزنه حيث يسيرون مسافات طويلة بين الصخور والجبال، ويقول إن المناظر الجميلة تأسرهم وتنسيهم كل معاناتهم ولا يكترثون بطعام أو شراب.
يُحاول الأصدقاء اكتشاف كل جديد برحلاتهم السنوية، وهم يستغلون لحظات وجودهم هناك للبحث عن المناطق المحيطة، لا سيما تلك القريبة من الخان الأحمر والبحر الميت، ويتحدون معيقات الاحتلال وإجراءاته.
وقد بدا واضحا أن المستوطنين ينشطون وبكل الطرق لجذب سياح أجانب، فينظمون مسارات للمشي وأخرى فوق سفن الصحراء (الجمال) ومركبات تتحدى وعورة الجبال، وينسبون لأنفسهم أبرز المعالم الأثرية والتاريخية ويسِمونها بشارات خاصة.
كل ذلك لا يضير أنور دوابشة الدليل السياحي الفلسطيني، ولا يمنعه من ممارسة دوره بتوعية آلاف الفلسطينيين والأجانب، الذين يأخذهم بجولات سياحية غير آبه بمعوقات الاحتلال ومستوطنيه.
دحض للأكاذيب
بقدمين من حديد جاب دوابشة جل المناطق الفلسطينية، وانطلق من الأغوار شمالا وحتى الخليل جنوبا، مرورا بالبحر الميت وأريحا، حيث أخفض بقاع الأرض، للتعريف بأهمية تلك الأماكن وتأكيد فلسطينيتها.
يقول دوابشة للجزيرة نت إن جولاته “غلبت” بعددها وحجمها وتأثيرها مساعي الاحتلال وأهدافه، ببسط نفوذه والترويج وكأنها مواقعه السياحية.
في غضون أيام سيُطلق دوابشة موسمه السياحي السابع لتنظيم مسارات والتخييم في الصحراء، يرفع شعاره “الأرض لنا ونحن أحق بالاستمتاع بها”، ويصحب معه نحو ثمانين شخصا تتفاوت أعمارهم بين سبعين عاما وخمسة أعوام.
خلال العام الماضي نظم دوابشة أكثر من ثلاثين جولة، زار فيها ما يزيد على 750 موقعا سياحيا، ويقول “بتنا نشهد منافسة وتكاثرا بسياحة الفلسطينيين الداخلية”.
يشدهم للانضمام إليه، خبرته الممتدة لسنوات طويلة ومعرفته بتفاصيل الأرض وما يربض فوقها من معالم يسرد دوابشة حكايتها لهم وللمارين دون موعد، خلال وقفات تصدف مسيرهم الممتد لعشرات الكيلومترات، فالهدف حسب وصفه “سياحي وتعريفي وبيئي”.
تُعلِّم إسرائيل عبر شارات خاصة بها مسارات سياحية بالمواقع الفلسطينية التي تحتلها وتروج لها وكأنها جزء منها، وتمحو بالمقابل علامات الفلسطينيين في مساراتهم السياحية.
يُعرف مسار إبراهيم عليه السلام بأنه المسار الوطني الفلسطيني، ويمتد من شمال فلسطين لجنوبها بطول 332 كيلو مترا، إضافة لمسار “الميلاد” وبهما ينشط الفلسطينيون سياحيا، وحسب وزيرة السياحة الفلسطينية رولا معايعة، فإن الفلسطينيين استقبلوا نحو ثلاثة ملايين سائح خلال العام 2018.
الرد بكل الطرق
يحاول الفلسطينيون بكل قوتهم إثبات وجودهم على الأرض أمام “سطوة” الاحتلال وفق قول إياد حمدان مدير وزارة السياحة بمدينة أريحا على آلاف المراكز والمواقع السياحية الفلسطينية.
بمدينة أريحا وحدها يروج الاحتلال حسب حمدان لـ 240 موقعا سياحيا، يسيطر على معظمها بحكم وقوعها بمناطق “ج” التي يُخضعها عسكريا وإداريا لسلطته، وهو الحال مع آلاف المواقع الأخرى.
بكل الطرق يسعى الفلسطينيون لتعزيز السياحة لديهم، ورغم أن فلسطين تشتهر بالسياحة الدينية فإنهم توجهوا لأنواع جديدة كالبيئية والمسارات وسياحة المغامرات وهو ما ضاعف من حجم السياحة الداخلية.
وعالميا تسعى وزارة السياحة لإدراج مواقع أثرية ضمن لوائح التراث العالمي لليونسكو تمهيدا لحمايتها والحفاظ عليها، إضافة للترويج للسياحة الفلسطينية دوليا عبر معارض نظمت خصيصا لذلك.
بإصرارهم على الوجود بها ورفدها بالزيارات المختلفة يؤكد الشاب فوزي والناشط دوابشة أحقية الفلسطينيين بأماكنهم التاريخية والسياحية، وبغير ذلك لا يجدون وسيلة أكثر نفعا للحفاظ على موروثهم.
المصدر : الجزيرة