“تأثير الدومينو”.. كيف لانقراض قرد أن يؤثر على كوكب الأرض؟

444 views Leave a comment
“تأثير الدومينو”.. كيف لانقراض قرد أن يؤثر على كوكب الأرض؟

إحدى أشهر الصور التي تجول أرجاء عالم التواصل الاجتماعي من حين لآخر هي تلك التي يقف فيها أحد الغوّاصين بجانب قرش أبيض ضخم في أعماق المحيط ثم يُكتب تحتها أن هذه صورة لأخطر كائن على كوكب الأرض، ذلك الذي تسبب في قتل الآلاف، وبجانبه يقف قرش أبيض مسالم، في إشارة إلى الإنسان كأخطر كائن رغم وقوفه بجانب القرش. تستخدم الصورة في إشارة إلى استيائنا، نحن البشر، من الطريقة التي يتعامل بها بنو جنسنا مع بعضهم بعضا، ومع الطبيعة أيضا، لكن على الرغم من ذلك، فإن الغالبية العظمى منّا لا تفهم بوضوح حجم هذا الأثر الذي نتسبب فيه، أو حتّى قدر ارتباطنا مع هذا الكوكب.

 

هل تعرف تلك اللعبة الشهيرة؟ حينما تضع عددا ضخما من قطع الدومينو بجوار بعضها البعض في شكل مميز ثم تدفع القطعة الأولى فقط فتبدأ سلسلة الاصطدامات بين قطع الدومينو وتستمر في صورة ممتعة حتّى تقع آخر قطعة على الأرض، لطالما كانت لعبة مسلية لنا كأطفال، سواء حينما نمارسها بعدد قليل من القطع أو حينما نشاهدها على التلفاز في البرامج الترفيهية، يُسمى ذلك بـ “تأثير الدومينو1“، وكثيرا ما يُستخدم الاصطلاح كتعبير مجازي عن تسلسل الأحداث السياسية وتفاقمها، لكن ماذا لو كانت الحياة على الأرض هي لعبة دومينو مشابهة؟

   

   

لفهم الفكرة دعنا نفترض أن هناك نوعا من النحل ينقل حبوب اللقاح من زهرة أحد النباتات إلى زهرة أخرى، إذا انقرض هذا النوع من النحل لن يتمكن هذا النوع من البقاء لفترة طويلة، بالتالي سينقرض هو الآخر، لكن مع انقراضه سوف تظهر مشكلة لنوع من الحشرات كان يتغذى على إنتاج هذا النبات من الفواكه، بالتالي سوف تؤثر تلك المشكلة بقوة في بقاء تلك الحشرة، وهو ما قد يتسبب بدوره في مشكلة لنوع آخر من الحيوانات التي كانت تعتمد على تلك الحشرة لتخليصها من فطر سام يلتصق بجلودها… وهكذا دواليك، مع بعض التأمل يمكن لك أن تخمن أن الأمر سوف يطول حياتنا، نحن البشر، في مرحلة ما.

 

خذ مثلا السلاحف الاستوائية والسعادين العنكبوتية، قد تظن أنه ليس لتلك الكائنات أي علاقة بحياتك أو بالحفاظ على مناخ مستقر، لكن حينما تعرف أن الأشجار الكثيفة ذات الخشب الصلب في الغابات، وهي الأكثر فعالية في إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، تعتمد على هذه الكائنات لنشر بذورها حينما تقطفها من الشجر لأكلها ثم تلقي ببقية الثمرة على الأرض، قد يتغير رأيك، فتصبح تلك السعادين الغريبة ذات أهمية كبيرة في بقائك على وجه الأرض!

 

في دراسة جديدة من نوعها، نُشرت2 فقط قبل عدة أسابيع في الدورية الشهيرة “نيتشر” (Nature)، قام فريق بحثي إيطالي أسترالي بتقصّي إمكانية أن يؤثر ما يُسمّى بالانقراض المشترك (Co-Extinction) على مستقبل الحياة على الأرض، والانقراض المشترك هو بالضبط ما تحدثنا عنه منذ قليل، أن يتسبب انقراض كائن ما في انقراض آخر كان يعتمد عليه، ثم قد يتسبب انقراض هذا الكائن الثالث في انقراض آخر رابع للسبب نفسه، يسمي باحثو الدراسة تلك الفكرة بـ “تأثير الدومينو الانقراضي” (extinction domino effect).

   

  

الأمر لافت للانتباه حقا، حينما نقوم بمشاركة صورة الإنسان والقرش التي تحدثنا عنها منذ قليل فإننا نفعل ذلك من قبيل اهتمامنا نحن البشر بالظهور ككائنات طيبة وتخاف على البيئة، لكننا لا نتصوّر أبدا أن توجد علاقة مهمة بين حياة هذا القرش الأبيض وحياتنا. يتساءل البعض، في الكثير من الأحيان، عن أسباب اهتمام علوم البيئة بالانقراض، متصوّرا أن للمشكلة جوانب أخلاقية أو جمالية أو سياسية فقط، لكنه لا يدري أن حياته على المحك لمجرد أن هناك حشرة ما في مستنقعات الأمازون تواجه حاليا أزمة كبيرة لأن أعدادها تتناقص بسرعة مجنونة.

 

يمكن لك أن تتخيل الحياة على كوكب الأرض كشبكة ضخمة مصنوعة من خيط مطّاط ومشدودة بقوة في جوانب حجرة واسعة، الحجرة هي الأرض، والروابط بين خيوط الشبكة هي الكائنات الحية، كل رابطة في الشبكة قوية، لكن ليس فقط لأن أحدهم قام بربطها بشكل محترف، وإنما أيضا لأنها تستمد القوة من الروابط المجاورة لها، إذا حدث وانقطع أحد الخيوط في تلك الشبكة فإن ذلك يؤثر على الروابط المجاورة له، والتي بدورها تؤثر على الروابط المجاورة لها، وهكذا تتأثر كل الشبكة، وقد تنهار تماما في مرحلة ما.

 

لهذا السبب فإن قوة أي كائن غير مقرونة فقط بقدرته على أن يصبح أكثر مرونة، لأنه حتّى أكثر الكائنات قدرة على التكيف لن تتمكن بسهولة من مقاومة هذا النوع من الضغط الكارثي الناتج عن انقراض الكائنات الأخرى في بيئته. الانهيار الكامل3، بالنسبة للمنظومة البيئية، ليس جزءا من تصوّر لكاتب مجنون أو فيلم أبوكاليبسي ما، في الحقيقة تتوقع الدراسة الجديدة أنه مع قسوة التغيرات المناخية، وتصاعد متوسط درجات حرارة الأرض بحد 4-5 درجات مئوية عن فترة ما قبل الثورة الصناعية، فإن الحياة على الأرض من الممكن أن تنقرض بالكامل!

    

   

للوصول إلى تلك النتائج قام الباحثون4 بعمل محاكاة لـ 2000 “أرض افتراضية”، في كل منها ترتبط الأنواع الحيوانية والنباتية بشبكة بيئية مماثلة لتلك التي نعيش بداخلها على الأرض، ثم باستخدام نمذجة متطورة ومعقدة قام الفريق البحثي بتعريض كل أرض افتراضية منها لتغيرات بيئية كارثية، كالاحترار العالمي، وسيناريوهات “الشتاء النووي” بعد تفجير قنابل ذرية متعددة، وتأثير اصطدام الأرض بكويكب كبير، هنا جاءت النتائج لتقول إن فداحة الكارثة تتعلق بشكل كبير بالانقراض المشترك للكائنات، والتي تبدأ -بالضبط كقطع الدومينو- في الانهيار شيئا فشيئا حتّى آخر كائن.

 

تلقى تلك الفرضيات دعما تجريبيا كبيرا، على سبيل المثال كانت دراسة5 صدرت في عام 2014 قد أشارت إلى أنه بدراسة السجل الأحفوري فإن سرعة انقراض الكائنات الحية في العصر الحالي أكبر بـ 1000 مرة من المعدلات الطبيعية، بل ومن المتوقع أن ترتفع تلك المعدلات إلى 10000 مرة خلال فترة قصيرة نسبيا، إن تلك الحالة من الانقراض المتسارع ليست إلا إشارة واضحة -بحسب الدراسة- إلى أننا بالفعل نخوض انقراض الأرض السادس العظيم، لفهم أفضل لذلك النطاق يمكن لك تأمل تقرير سابق للكاتب بعنوان6 “شبح النهاية.. كيف يسهم تراجع “التنوع الحيوي” في دمارنا؟”).

 

من جهة أخرى فإننا نعرف أنه، بسبب أنشطة بشرية، وبحسب7 مؤشر الحياة على كوكب الأرض، والذي أنتجته جمعية علم الحيوان في لندن للصندوق العالمي للحياة البرية، قد تم القضاء على 60٪ من الثدييات والطيور والأسماك والزواحف منذ عام 1970 فقط وحتّى عام 2014، بعد إجراء دراسات على 16،704 تجمع حيوي من أكثر من 4000 نوع من الكائنات الحية، هذه الصدمة دفعت الخبراء في أوائل العام 2018 إلى التحذير من أن القضاء على الحياة البرية هو الآن حالة طوارئ قصوى تهدد الحضارة البشرية ذاتها.

 

 

جاء في التقرير الذي أصدره “الصندوق العالمي للحياة البرية”، ويشارك فيه 59 عالما من جميع أنحاء العالم، أن الاستهلاك الواسع والمتزايد لموارد الكوكب من قِبل سكان العالم يضع شبكة الحياة على حافة الانهيار، ما يهدد بقاء البشر أنفسهم، لفهم ما يعنيه أن تختفي 60% من الكائنات الحية في تلك الفترة القصيرة جدا، يضرب8 مايك باريت المدير التنفيذي للمنظمة مثالا بسيطا، تخيّل أنه حدث انخفاض بنسبة 60٪ من عدد سكّان كوكبنا، سيعادل ذلك إفراغ أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وأفريقيا وأوروبا والصين وأستراليا من السكان تماما!

 

أما الأكثر دعوة للشعور بالخطر هو ذلك التضافر الشديد بين انخفاض أعداد الكائنات الحية والتغيرات المناخية. على سبيل المثال، كانت دراستان9،10 قد صدرتا قبل عدة أشهر في الدورية الشهيرة “ساينس” قد أشارتا إلى أنه بالوصول إلى حاجز ثلاث درجات في متوسط حرارة الكوكب فإن الأرض ستخسر 47% من الحشرات، و26% من الفقاريات، و16% من النباتات نطاقاتها الجغرافية، يعني ذلك أنه مع كل تطور قاسٍ في تأثير الاحترار العالمي فإن هناك أيدي إضافية تتدخل في لعبة الدومينو، فيصبح وقوع القطع أسرع من ذي قبل لأن هناك أكثر من دفعة لقطع مختلفة وليس القطعة الأولى فقط في سلسلة الدومينو.

  

لكن أسوأ نتائج هاتين الدراستين كان أن تلك الحالة من الانقراض المتنامي سوف تتسبب شيئا فشيئا في خفض تعقّد النظم البيئية، بمعنى أن عددا أقل من الأنواع التي ستتجاوز التغيرات المناخية القاسية ستحل محل عدد أكبر الأنواع السابقة، ما يجعل الأنظمة البيئية أكثر بساطة، وكلما ارتفعت وتيرة التغيرات المناخية أصبحت المنظومة البيئية أكثر هشاشة لهذا السبب، لأنها -ببساطة- كلما كانت أكبر وأكثر تنوعا، كانت أقوى في مواجهة التغيرات. يستمر ذلك التناقص حتّى نصل إلى لحظة الانهيار التام، تخيل الأمر وكأنه متتالية متناقصة تفقد المنظومة فيها نصف عددها في كل خطوة (1000، ثم 500، ثم 250، ثم 125، إلخ).

   

   

يبدو إذن أن تأثير الدومينو ربما لن يحدث بصورة متساوية، بل بشكل متسارع، وتلك في الحقيقة هي أحد الأخطاء المهمة التي نقع فيها حينما نقرر النظر إلى مشكلاتنا مع التغير المناخي أو معدلات الانقراض، فنحن نرى العالم بطريقة شراء الأشياء في السوق، تدفع خمسة جنيهات في سبيل الحصول على عبوة مياه غازية واحدة، أو 10 جنيهات مقابل عبوتين، أو 50 جنيها مقابل عشر عبوات، تلك المنظومة الخطية تعطينا انطباعا أن كل شيء في العالم يتم بالطريقة نفسها.

 

لكن الأنظمة البيئية هي أنظمة معقدة (Complex Systems) تتطور بصورة لا خطية متسارعة، تبدأ التأثيرات صغيرة، وربما غير واضحة، لكن مع الوقت تتفاقم وتتسارع، لتجد أن ما حدث خلال عشر سنوات فائتة من ضرر قد يحتاج إلى سنة واحدة فقط ليتضاعف، ثم عدة أشهر، ثم عدة أيام، وهكذا. في الأنظمة المتعقدة تنخفض قدراتنا على التوقّع، ما يمنعنا من بناء تنبؤات غاية في الدقة لمستقبلنا على الأرض، ويضعنا ذلك في مهب المفاجآت المناخية والبيئية التي تضربنا من حين لآخر كرياح عاتية لا ترحم.

 

هل سوف تنقرض الحياة على كوكب الأرض؟ ربما لن يحدث ذلك، خلال ملايين السنين عانت الأرض من خمسة انقراضات كارثية كادت بالفعل أن تجتث أثر الحياة من قلب هذا الكوكب، لكنها لم تفعل، لقد وجدت الأخيرة طريقها بين الصخور الصلدة، وفي أعماق البراكين المشتعلة، وخلال أقسى درجات البرودة الممكنة، لكن ذلك بالطبع لا يتضمننا نحن البشر. بمعنى أوضح، حينما نسأل عن انقراض كائن واحد يُسمّى “الإنسان” فإن الإجابات لن تكون مبشّرة في كل الأحوال.