صهيب جاسم-سولاويزي
لكن الأمر بدا مقلقا، فبعد ذلك تكررت الهزات بدرجات متقاربة، ووقعت الصدمة في نفوس كثيرين عندما اشتدت قوتها ووصلت 7.7 درجات مع أن هيئة الأرصاد الجيوفيزيائية صححت تقديراتها إلى 7.4 بعد ثلاث ساعات من أول هزة.
السلطات أصدرت تحذيرا من احتمال وقوع تسونامي، لكنها ألغت التحذير بعد نصف ساعة، أي السادسة والنصف مساء بالتوقيت المحلي، حسب بعض معطياتها ومعاييرها المعهودة التي أثبتت أنها ليست أكيدة دائما في التعامل مع التسونامي.
وتكررت الهزات التتابعية بعدها، مما جعل كثيرين غير مطمئنين مما حصل رغم أن السلطات سحبت التحذير من احتمال وقوع تسونامي بعد نصف ساعة من الهزة القوية، لكن التسونامي كان في طريقه في تلك الدقائق نحو خليج بالو، حيث إن بؤرة الزلزال قريبة من مدخل الخليج، وبالو تقع في عمقه وآخر نقطة فيه، فاندفع المد البحري نحو عمق الخليج، ووقع ما وقع من دمار شهده العالم بعد ذلك.
المساعدات أبقت السكان على قيد الحياة (رويترز) |
الدقائق الأولى
وخلال الدقائق الأولى من التسونامي وقبل حصول الدمار وانقطاع التيار الكهربائي والاتصالات أرسل مواطنون من بالو عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات عدة انتشرت سريعا وبدت مخيفة، فهذا أول تسونامي بهذه القوة منذ عام 2006 في إندونيسيا.
انقطعت الأخبار طوال الليل، ولم يكن مصدر حكومي أو إعلامي أو حتى أي شخص من عامة الناس قد أرسل تلك الليلة ما يظهر حجم الدمار سوى بعض الفيديوهات لضحايا في بعض المناطق ودخول الماء للسواحل بالمدينة، لكن في صباح اليوم الثاني ظهرت أول حصيلة تشير إلى أن العدد 48 قتيلا، ثم بلغ وقت الظهيرة 384، لكن دون صور كثيرة.
وكان على كل المعنيين بالكوارث التفكير في الوصول إلى بالو الواقعة وسط جزيرة سولاويزي (شمال شرق) وتبلغ مساحتها 180 ألف كلم مربع، وهي مقسمة لستة أقاليم وعشرات المحافظات، وقد تعرضت ثلاث مناطق بإقليم سولاويزي الأوسط لهذه الكارثة، هي مدينة بالو ومحافظتا دونغالا وسيغي.
تعطل مطار بالو بتهدم الطابق العلوي من برج الملاحة الجوية وتشقق جزء من مدرجه وتوفي الموظف الفني فيه الذي سقط من أعلى البرج، وكان على الجميع البحث عن بدائل في مطارات قريبة من بالو لكن الخيارات قليلة.
البعض توجه إلى مدينة مكاسر جنوب الجزيرة واستقل سيارته مع المساعدات والمعدات في رحلة امتدت نحو 24 ساعة، وآخرون توجهوا إلى غورانتالو شمالا، ومن هناك كانت رحلتهم البرية تستغرق بين 8 و12 ساعة في مثل هذه الظروف.
تجربة فريق الجزيرة
أما فريق الجزيرة فقد اختار التوجه إلى بوسو شرق الجزيرة، فهي الأقرب مسافة، لم يكن القرار سهلا لأن انهيارات أرضية وقعت في الطريق بين بالو وبوسو وعرضت الكثيرين للخطر، وهو ما يفسر تأخر وصول العون والمساعدات.
وصلنا إلى مدينة بوسو، المدينة التي كانت موقعا لأحداث عنف ديني بين المسلمين والمسيحيين قبل نحو عقدين، وبدا أن هناك شحا في المحروقات بسبب الكارثة وانقطاع وصول شحناتها إلى مدن وسط سولاويزي كلها، ولذلك لم يكن من السهل أن نجد سيارة وسائقا يوصلنا إلى بالو.
التقينا بأحد المواطنين فوعدنا بإيصالنا إلى منتصف الطريق فقط لظروف عائلته المنكوبة أيضا وضرورة البحث عن مفقود لهم، وبعد الانتظار في طابور طويل اشترينا ما نحتاجه من وقود وانطلقنا في رحلتنا نحو بالو، لكن الطريق لم يكن كما عهدناه، زحام واختناقات مرورية بسبب حركة نزوح من بوسو لمن نجا من السكان، وطوابير مئات بل آلاف السيارات أمام محطات الوقود.
بعد وصولنا إلى نصف الطريق وفي بلدة صغيرة جدا اسمها توبولي واقعة على مفترق طرق بين الشمال والشرق والغرب كان علينا البحث عمن هو مستعد لإيصالنا إلى بالو، وبعد بحث وتفاوض تعهد رجلان بإيصالنا، كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء، وقالا إن الطريق مزدحم وسنصل بعد ساعات، وفعلا كان الطريق الجبلي مزدحما بسبب تدفق سيارات الفارين بأنفسهم من مدينة بالو التي انقطع عنها التيار الكهربائي والماء ودمرت سواحلها، في مقابل قوافل مساعدات ومتطوعين وآخرين عائدين بحثا عن عوائلهم.
وما زاد الزحام انهيارات أرضية كثيرة في الطريق الجبلي بسبب الهزات الأرضية التي أوقعت ضحايا خلال الأيام الأولى، كان عدد عناصر الجيش والشرطة محدودا، وهذا ما يفسر حدوث حالات سلب ونهب لبعض سيارات المساعدات وبعض المحال التجارية، وذلك في سابقة خطيرة بسجل الكوارث الطبيعية في إندونيسيا، وكان علينا أن نترجل من السيارة كبعض المواطنين الآخرين والمشاركة في التفاهم لمرور السيارات من الجهتين بدلا من توقف الجميع لساعة أو ساعتين عند كل انهيار أرضي.
وبعد ساعات عدة وصلنا إلى المدينة، دخلناها ليلا من الطريق الساحلي فإذا الدمار والخراب ورائحة الموت تملأ المكان، سفن فوق اليابسة وعربات مدمرة وبيوت مهدمة، إنه التسونامي الذي له طبيعة مختلفة عن الزلازل من حيث آثاره.
كل ذلك والمطار كان مستخدما من قبل طائرات عسكرية فقط، وبعض الطائرات الإنسانية الخاصة لخدمة المواطنين ووصول المساعدات العاجلة والأطباء والمتطوعين والمسؤولين في مجال الكوارث، فكان على كثيرين البحث عن طرق برية حتى فتح المجال الجوي تدريجيا بعد نحو أسبوع من الكارثة.
أما مدينة بالو -باستثناء 5% من أحيائها- فكانت تعيش ظلاما دامسا وشللا شبه كامل في الخدمات من كهرباء وماء واتصالات هاتفية عوضا عن أزمة خانقة في المحروقات وعدم وجود أماكن مناسبة للسكن، فليس من أحد يتجرأ على السكن في المباني الإسمنتية بمناطق الزلازل بسبب استمرار وقوع الهزات الارتدادية، ورغم كل ذلك يحمد الله كثير ممن نجوا في مدينة بالو أن التسونامي لم يدمر كل المدينة وإلا لكان عدد القتلى بعشرات بل مئات الآلاف.
المصدر : الجزيرة