رأي حول الفضائح الجنسية التي تهز الكرسي البابوي: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”

961 views Leave a comment
رأي حول الفضائح الجنسية التي تهز الكرسي البابوي: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”

هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة – الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

ليست الفضائح أو المحن بالجديدة على المؤمنين والمؤسسات الدينية بالمطلق. فما من مؤسسة دينية أو رجال دين في أي مكان أو زمان إلا وطالتهم ظلما أو حقا الفضائح وبخاصة الجنسية والمالية منها. المال والجنس هما أفعى “إبليس” وتفاحته وما زالا السلاح الأكثر مضاء بيد الشيطان الذي أشار إليه البابا فرانسيس على أنه “مطلق الاتهامات”.. استهدف بها هذه المرة ليس رجال الكنيسة وحدها بل ومعنويات أبنائها وثقتهم بها أيضا.

قداسة البابا كان يتحدث عن رسالة وجهها السفير البابوي السابق في واشنطن البطريرك كارلو ماريا فيغانو دعا فيها ضمنا إلى تحمل البابا فرانسيس شخصيا مسؤوليته الاعتبارية، بصفته المتربع على الكرسي الرسولي (كرسي بطرس الرسول)، عن الفضائح الجنسية المدوّية التي بدأت من أميركا (أكثر من ألف ضحية على يدي 300 رجل دين في الكنيسة الكاثوليكية في ولاية بنسيلفانيا وحدها). وسرعان ما توالت فضائح مماثلة لها في ألمانيا وإيرلندا وتشيلي واستراليا. فيغانو اتهم البابا نفسه بأنه كان على علم بملف الاعتداءات والإساءات الجنسية التي عانت منها الأسرة الكاثوليكية في أميركا لسنوات عديدة مشيرا على نحو خاص إلى علم الحبر الأعظم بقضية كاردينال واشنطن ثيودور ماك كاريك الذي استقال مؤخرا من منصبه على وقع الفضائح الجنسية التي طالت خدمته في هذا الموقع الحساس على امتداد 5 سنوات. وبحسب فيغانو فإن قداسة البابا فرانسيس لم “يطبطب” فقط على فضائح ماك كاريك لا بل وسمح ببقائه بمنصبه ومواصلة ترقياته في خدمته الكنسية.

ويبدو أن دعوة الحبر الأعظم إلى اجتماع بطاركة العالم في حاضرة الفاتيكان في فبراير العام المقبل لم تكن كافية لتهدئة المخاوف والخواطر. فالجرح غائر – كما تفيد شهادات آلاف مؤلفة – من الضحايا ومن المعترفين بذنبهم من “الآباء الجناة.” يريد البابا للمؤتمر أن يؤسس لآلية محكمة من الشفافية في تفادي ورصد وعلاج أي شكل من أشكال الإساءة والاعتداء الجنسي بصرف النظر عن مقترفيها وخاصة في صفوف الجسد الكنسي والبنيان الكاثوليكي الكنسي والخدمي.

المشكلة أن اتهامات التغطية على مزاعم الانتهاكات ومحاولة طمسها بعد ثبوتها باتت مسألة مثبتة بعدد من الدراسات والمحاكمات بخاصة تلك التي شهدتها ولاية ببنسلفانيا الأميركية إضافة إلى دراسة “صادمة” ستنشرها الصحافة الألمانية في الـ 25 من سبتمبر/أيلول الجاري عن 3600 ضحية من صغار السن واليافعين الذين وثّقوا مزاعم بتعرضهم لاعتداءات جنسية من قبل 1670 من رجال الدين على مدى 7 عقود مضت. ووفقا للدراسة التي جاءت بتكليف من الكنيسة الكاثوليكية نفسها في ألمانيا لبحاثين مهنيين مستقلين، فإن مزاعم الإساءة والاعتداءات الجنسية طالت ما نسبته 4.4% من كهنة وخدّام الكنيسة.

ومن أعلى الأصوات المطالبة بالمكاشفة والمحاسبة والمراجعة الشاملة كانت الأصوات الكاثوليكية الأميركية تحديدا. المسألة متعددة الجوانب ولا يمكن إغفال عوامل أخرى تذكي من نار العتب والغضب إلى حد ما. فبداية، يستقر في وجدان كل مسيحي – أيا كانت طائفته – مقولة السيد المسيح الخالدة: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.” فما من أحد يثير هذه القضية من منطلق الإدانة أو التعالي والاعتداد بالصلاح والعفة. فكلنا “خطاة” كبشر. لكن الكنيسة الكاثوليكية نشأت تاريخيا وكهنوتيا على تقاليد الاعتراف “سر الاعتراف” وبطبيعة الحال اعتراف تليه توبة طريقا للخلاص. وهنا تكمن المشكلة بالنسبة للجيل الكنسي الكاثوليكي الحالي وخاصة في أميركا وألمانيا.

من الأمور اللافتة والعجيبة للقادم من المشرق -خاصة بالنسبة لمسيحيي الشرق- إلى أميركا، سماعه لمصطلح أن فلانا كاثوليكيا في حين يشار إلى المعمداني وجميع الطوائف الأخرى بمن فيهم المورمون وشهود يهوة إلى أنهم مسيحيون. بمعنى أن الثقافة الأميركية العامة تحمل شكلا من أشكال التحفّظ وبصراحة أكثر “الجفاء” من الكاثوليكي لاعتبارات دينية – سياسية. فعلى سبيل المثال، واجه الرئيس الديمقراطي الراحل جون إف كينيدي كثيرا من السجال حول ما إن كانت كاثوليكيته تتعارض مع صلاحيته لرئاسة أميركا، وهو السجال الذي كان بدرجة أقل حدة عندما رشّح ميت رومني – المورموني – نفسه عن الحزب الجمهوري في مواجهة الرئيس السابق باراك حسين أوباما.

أما في ألمانيا، فالفضيحة تكتسب بعدا لا يقل حساسية، كونها البلاد التي شهدت بزوغ نجم الإصلاحي المجدّد، اللاهوتي الكاثوليكي أصلا الراهب مارتن لوثر، والذي شكّل بثورته في القرن السادس عشر على فساد الكنيسة الكاثوليكية إبان بابوية ليو العاشر ثاني انشقاقا في تاريخ الكنيسة الأم، فبعد انشقاق الكنيسة الكاثوليكية عن الأرثوذوكسية أسست اللوثرية بداية لا متناهية من التعدّد والتشظّي الطائفي لما يعرف بالكنائس البروتستانتية وما تلاها من كنائس نأت بنفسها عن كل ما سبق لدرجة بلغت فيه عدد الطوائف في أميركا زهاء الـ 33 ألف طائفة، 35 منها تعتبر تيارا رئيسيا للطوائف الكبرى. وأكثر الطوائف الأميركية المسيحية تعدادا البروتستانت فيما تشكل الكاثوليكية الطائفة الثانية من حيث الحجم بعد أكبر الطوائف المعمدانية المعروفة باسم المعمدانيين الجنوبيين..

إن السؤال الكبير المطروح على الحبر الأعظم هو مدى انسجامه مع تراثه قبل وبعد توليه الكرسي الرسولي إثر استقالة البابا بندكتوس السادس عشر.

ليس سرا أن هذين البابوين مازالا يشكلان جدلا في الكنيسة الكاثوليكية وخارجها من مسيحيين وأديان أخرى ولا دينيين ولا أدريين وملحدين من حيث ما عرف عنهما على الأقل من الناحية الدينية الصرفة. عرف البابا بنيديكتوس السادس عشر على أنه من أكثر الباباوات تعمقا في اللاهوت والتاريخ الكنسي، وذهب البعض إلى اعتبار تصريحاته بخصوص “الفتوحات الإسلامية” قبل سنوات، تعبيرا عن رفضه المجاملة أو المهادنة في المسائل الدينية رغم حساسيتها السياسية. تماما كما رأى كثيرون في مواقف البابا الحالي “إصلاحية” مبالغ فيها تصل إلى درجة الخوض وحتى المسّ بالمحرمات على نحو غير مسبوق كنسيا خاصة من قبل من يشغل الكرسي الرسولي. من تلك المواقف، غسله رجل لاجئ مسلم في “خميس الأسرار” إحدى العلامات الفارقة على طريق درب الآلام والصلب والقيامة. البابا فرانسيس أثار جدلا أيضا عند سماحه بمناولة المطلقين فيما كان ضربا من المستحيل. كما أثارت تصريحات وعظات البابا فرانسيس العديد من السجالات والاعتراضات بمواقفه من الإجهاض وعقوبة الإعدام.

وأمام كل هذه المواقف “الجدلية” و”الإصلاحية”، رصد الإعلام مواقف “مثيرة وخلافية” أيضا للبابا كتصريحاته ضد المرشح الأميركي آنذاك دونالد جيه ترامب حول بناء الجدار وسياساته إزاء المهاجرين وبخاصة “المسلمين والمكسيكيين”. كما أثار جدلا وما زال فيما يخص موقفه إبان الأزمة السورية وقضايا مسيحيي الشرق عموما. هذه المسائل السياسية “الخلافية”، دفعت بمعارضيه والمتصيدين له بالذات بالإشارة إلى تاريخ الكرسي الرسولي إبان أزمات عالمية جسام وأكثرها خطورة المحرقة النازية حيث مازال الفاتيكان في موقف الاعتذار عن تقصيره في الوقوف بوجه أودولف هيتلر. لكن الإنصاف التاريخي – الديني والسياسي – يتطلب معايير موحدة فيما يخص الكنيسة الأرثوذوكسية إبان بطش جوزيف ستالين والمرجعية الشيعية إبان حكم الشاه في إيران ونظام الملالي الحالي إضافة إلى الأزهر الذي حار الدارسون في فهم دوره على تعاقب نظم الحكم في مصر بمن فيها الرئيس “الإخواني” محمد مرسي ومدى جدية محاربتهم للتطرف والإرهاب في ظل مناهجهم التقليدية المثيرة للجدل (سنقوم بطرح هذه القضية في مقالة أخرى.)

الخلاصة أن معايير الإدانة – سواء أكانت من داخل الكنيسة الكاثوليكية أو من خارجها أو من داخل الأسرة المسيحية أو من خارجها – بحاجة إلى أن تكون معايير موحدة. ومن كان من الراجمين الكثر في هذه الأيام بلا خطيئة، فليرمها بحجر..

أما المحب أو المحايد في مسألة “محاكمة” الكنيسة الكاثوليكية أو الجالس على الكرسي الرسولي، فمعني بالإصلاح أكثر من الإدانة والمغفرة “تحصيل حاصل” لكن منطق الأمور في عالم اليوم، في عالم الصحافة التحقيقية ومنصات التواصل الاجتماعي التي لا ترحم ولا تستثني أحدا، يتطلّب تحقيقا يشمل الجميع بمن فيهم البابا نفسه، يتم فيه إشراك جهات مختصة من خارج الكنيسة كرجال القانون والأمن المهنيين والمشهود لهم بالكفاءة والنزاهة. 

وما أراه أن البابا فرانسيس لما عُرف عنه من حس مرهف وإيمان صادق وإنسانية رفيعة، سيقدم استقالته من منصبه على سبيل تضميد جراحات الكنيسة ذلك لأن المشكلة في تقديري أكبر من أن تحل باستقالة بضعة بطاركة. العالم بالتأكيد وبخاصة المشرق سيخسر بذلك البابا لكنه بالتأكيد سيربح الكنيسة وهو الأولى على الأقل من وجهة نظر كاثوليكية. ونحن بالتأكيد لن نكون بعد ذلك “كاثوليكيين أكثر من البابا”!

بقي أن نقول – كأميركيين – أن ميزة الثقافة الأميركية والنظام الأميركي تكمن في الجرأة بكشف الأخطاء والخطايا والشجاعة في معالجتها لضمان- ما استطعنا إلى ذلك سبيلا – العمل على عدم تكرارها. فعلى سبيل المثال، الزائر لمكاتب المدراء التنفيذيين وكبار المسؤولين يلاحظ تصميمها الزجاجي “غير المظلل” والخالي من الستائر، إمعانا في الشفافية ودرء للشبهات. لكن ذلك لم يحل دون فضائح جنسية مدوية لم يسلم منها رجال السياسة والصحافة والمال وحتى الرياضة كما حدث في قضية الأميركي اللبناني، الطبيب الرياضي “لاري” لورانس جيرارد نصّار المدان بجرائم تعاطي مواد إباحية موضوعها الأطفال والاعتداءات الجنسية على العشرات من ضحاياه الأطفال واليافعين من لاعبي الجمباز في ولاية ميشيغن.

وعندما يتعلق الأمر بكشف الوحوش البشرية فالعالم مليء بالجرائم التي تقشعر لها الأبدان حتى في أكثر الأماكن قداسة وبراءة كدور العبادة والمخيمات الكشفية و”الجهادية” والمدارس بما فيها “الدينية”. لن أخوض في ذكر مزيد من الأمثلة فمحرك البحث غوغل سيكشف “المستور” شرقا وغربا شمالا جنوبا.. “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”..