“مَن منّا لا تُلِحّ عليه فكرة الهجرة خارج تلك البلاد التي كانت لنا ولم تَعُدْ لأحد، والبداية من جديد في بلد بعيد عن تلك البقعة التعيسة البائسة من العالم؟ “
بهذه الفكرة، التي لا تعد غريبة على الإطلاق لكثير من الشباب العربي، صرح شاب سوري يقيم في مصر لثماني سنوات، إلا أنه استدرك قائلا لـ “ميدان”: “من المهم مع قرار الهجرة أن تعي الثمن الناتج عن هكذا قرار، الهجرة ليست خيارا بسيطا، ولكنه إعادة لتشكيل ذاتك والعالم من جديد”، يحكي لنا (ع.ص) عن هجرته الأولى من سوريا لمصر، ثم قراره بالهجرة من جديد، موضحا أن هذا القرار، له أبعاده النفسية المؤلمة، فأنت تترك جزءا من ذاتك في كل بلد تتركه، وهذا ثمن الهجرة الذي يجب على المهاجر أن يعيه قبل السفر.
تاريخنا في المشرق العربي الحديث، كما يصفه الشاعر العراقي مظفر النواب، هو تاريخ من المنفى، في قصيدته “ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة” كانت أمنية مظفر في كل سنة أن يسقط القمع وأن يعود المنفيون إلى أوطانهم؛ فالمنفي، كما يرى النواب، هو الوجه الآخر الخفي لتاريخ طويل من الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والثورات المهزومة، والنكبة والاحتلال والأنظمة القمعية، وعلى باب كل سنة جديدة، لا يتمنى مظفر النواب إلا سقوط القمع، وعودة المنفيين، وبعد الربيع العربي، بدا واقعا، أن حاضرنا هو امتداد لتاريخ المشرق العربي؛ تاريخ من المنفى والغياب والحنين لبراءة الوطن الأولى.
في هذا السياق، تأتي رواية “الجهل” لميلان كونديرا الذي يُدهشك في كل مرة تقرأ له، كيف تتقاطع رواياته مع حياتنا بهذا الشكل. يتحدث كونديرا عن الغربة، والوطن، والعودة بعد طول غياب. يبدو استخدامه لمفردة “الجهل” لوصف الغربة والحنين صادما على عادة كونديرا، فيبدأ كونديرا الرواية بإعادة تعريف سريعة للكلمات والأشياء، يكتب: “يبدو الحنين كأنه مكابدة الجهل. أنت بعيد ولا أعرف كيف أصبحت. بلدي بعيد ولا أعرف ما يحدث فيه”، ثم تبدأ أحداث الرواية، رجل وامرأة في منتصف العمر من التشيك، هاجرا إلى فرنسا لمدة عقدين من الزمن، وبعد انهيار النظام الشيوعي الستاليني في براغ جاءت لحظة مواجهة أسئلة الوطن والغربة والمهجر والعودة مرة أخرى، لحظة إعادة تعريف لكل شيء من جديد، ولحظة انكشاف أمام الهشاشة الأصلية للإنسان، يتساءل كونديرا عن معنى الوطن وعن الحنين، وهل ثمة عودة ممكنة فعلا إلى موطن الحنين والبراءة الأولى، أم الإنسان مدفوع بجهله وخداع الزمن له تحت شعار الحنين؟
“أنا لا أُحِبُّ وَطني
مَجدُهُ المُجرَّدُ
يُفْلِتُ مِنّي،
ولكنّي (مع أنّ قولي هذا قد لا يُبشِّر بالخيرِ)
سَأُعطي كُلّ عُمري
مُقابلَ عَشرَةِ أَمْكِنةٍ مِنهُ،
أناس مُعيّنة، موانئ، غابات، صحاري، قلاع،
شظايا هذه المدينة، الكئيبة، العملاقة،
بعض شخصيّاته التاريخيّة،
جباله،
وكذلك ثلاثة من أنهره أو أربعة”
(خوسيه إيميليو باتشيكو)
يفتتح كونديرا روايته بحوار بين إرينا الأرملة المهاجرة -التي مات زوجها في الغربة- وصديقتها التي تسألها هل ستعود إلى بلدها؟ هكذا يضعنا مباشرة في قلب الإشكال، أو الأزمة، ليُثير في نفوسنا أسئلة من الوهلة الأولى. لقد سقط النظام الشيوعي، وعليها الآن ترك باريس التي عاشت فيها لعشرين عاما، وأن ترجع مرة أخرى إلى براغ. “ولكني عشت في باريس عشرين عاما، الأمر ليس بهذه البساطة لديّ هنا حياة كاملة بنيتها في هذه العشرين!”، تردف إيرينا واصفة حالها، و قبل أن تقرر زيارة براغ كانت تجلس أمام النافذة في شقتها في الطابق الأخير تنظر من مكانها العالي إلى باريس، يحكي كونديرا: “وأدركت كم هي سعيدة في هذه المدينة، كانت قد اعتبرت دوما، كبديهة، أن هجرتها هي التعاسة، لكن ها هي أمام هذا المشهد الباريسي أمام النافذة تتساءل ما إذا كانت التعاسة وهما أوحت به الطريقة التي يفهم بها جميع الناس المهاجر؟”. كان الجميع حولها ولمدة عشرين عاما يراها منفية من بلدها التي ناضلت من أجله، فلا بد إذن أنها تُكابد الحنين من أجل العودة إليه من جديد.
رجعت إيرينا إلى براغ التي لم تتعافَ بعد من الحكم الستاليني الشيوعي، حيث ذهبت لتشتري لها فستانا يناسب طقس براغ، وكان بالألوان والتفصيلات ذاتها التي خرجت من المصانع الشيوعية، ابتاعته مضطرة لأنه يُذكِّرها بماضيها البعيد الذي هربت منه، وارتدته في الحال، وفي الشارع أمام واجهة متجر كبير وجدت نفسها مرتدية فستانها الشيوعي المحلي في مرآة فسيحة، “فتسمّرت مذهولة، تلك التي رأتها لم تكن هي، إنما امرأة أخرى، أو عندما تمعنت طويلا في فستانها الجديد رأت حياة امرأة كانت ستعيشها لو بقيت في بلدها. لم تكن تلك المرأة منفرة، إنما مؤثرة، مؤثرة إلى حد البكاء، مثيرة للشفقة، مسكينة، ضعيفة، مغلوبة على أمرها”، استولى عليها الذعر كما لو أنها كانت تعيش كابوسها الخاص الذي ظلّت تهرب منه طوال عشرين عاما.
حين حان موعد لقاء رفيقاتها القديمات فوجئت إيرينا من حجم المسافة الزمنية والنفسية التي تفصلها عنهن، لم يسألها أحد عن عشرين عاما عاشتها في باريس، خلال اللقاء كانت كل تفصيلة صغيرة تُلقي الضوء على كل ما يفصلها عنهن: غيابها الطويل عن البلد، عاداتها كأجنبية، تحررها كفرنسية قادمة من باريس، أخذت تلوم نفسها لأنها منحت أهمية فائقة لهذا اللقاء، أرادت في نهاية المطاف أن تعرف إن كان بوسعها أن تشعر أنها في منزلها وأن تعيش في براغ مجددا وأن يكون لديها أصدقاء من جديد، لكنها أدركت مندهشة أن حياتها، جوهر حياتها ذاته، مركزها وكنزها موجود خارج براغ، ربما في باريس، أو ربما في سنوات اغترابها العشرين بين باريس وعن براغ، وهذا الجوهر لن يسعها التحايل عليه أو إنكاره، لقد غادرت براغ منذ عشرين عاما وعاشت في باريس عشرين عاما، على أيٍّ منهما تشعر بالحنين إذن؟
في مشهد رمزي ساحر يصل بنا كونديرا إلى ذروة الهشاشة المختبئة خلف كلمات الوطن والحنين والغربة، تسير إيرينا في إحدى قرى فرنسا قبل أعوام قليلة من انطفاء الشيوعية في التشيك وأوروبا، مفتونة ببهاء الريف الفرنسي، وجدت مشهدا مؤثرا على الضفة الأخرى من النهر الذي يشق القرية الريفية الفرنسية؛ وجدت عددا من الأشجار شديدة الإزهار وارفة الأوراق مقتلعة ومرمية وهي حية! حاولت أن تلفت نظر من حولها إلى هذا الأمر، إلا أن موسيقى صاخبة انفجرت من مكبر صوت قريب، أمام هذا الحدث الطارئ “وضعت إيرينا يديها على أذنيها وانفجرت بالبكاء. بكاء على عالم يختفي أمام عينيها”.
“يسخر الزمن من ضحاياه مرتين، مرة بتحويل ما لم يكن جميلا إلى جميل مفجر للحنين، ومرة باستخدام هذا الحنين نفسه ليخفت أي حماسة تجاه كل جميل قادم”
(بلال علاء)
مع انتصاف الرواية يظهر جوزيف ليشارك إيرينا معاني العودة والحنين والوطن، كان جوزيف قد قرر الخروج من براغ والتشيك كلها ليس لأنه يخشى القمع ويكره الاتحاد السوفيتي، كان سيسعه مزاولة مهنته والاعتناء بمزرعته دون إزعاج، لكنه كان وحيدا، مطلقا، دون أطفال، حرا تماما. قال لنفسه إنه ليست لديه سوى حياة واحدة، هذه الحياة، وإنه يريد أن يعيشها في مكان آخر.
إيرينا وجوزيف تقابلا مرتين، المرة الأولى وهما شابان يافعان في براغ، ولم يستطيعا الدخول في علاقة صداقة أو حب مراهق بسبب ارتباطهم بمجتمع براغ وعائلاتهم وأصدقائهم، مما قيّد حريتهما كثيرا، إلا أن المصادفة جمعتهم من جديد حين قررا العودة إلى براغ بعد زوال السلطة الشيوعية، اندهشت إيرينا من تحررها وحريتها التي لم تعتدها في براغ، كان كلٌّ منهما يتصرف وكأنهما منسجمان في النسيان، أحرار تماما من أي وسط اجتماعي أخلاقي، وهو ما أدهش إيرينا خاصة التي تكاد تنحصر كل ذكرياتها عن براغ في صورة كبت وحرمان وسلطوية أخلاقية، تذكرت إيرينا جوزيف ودعته لمقابلتها في مرح وخفة أعجبته، فقبل دعوتها.
ضمن حكايات لا يُكتب لها الاستمرار، يقتنص الغرباء كل الفرص المتاحة دون توانٍ، فوقت اللقاء لا مجال للتجربة والخطأ، ولا استفادة من أخطاء، ولا أمل في لقاء آخر
مستعيدين ذكريات شبابهم ومنتصرين على المدينة التي لفظتهم، شرع الاثنان بعد الحديث عن براغ التي تغيرت كثيرا في ممارسة الجنس دون مقدمات رومانسية، في فحش وانتهاك واتفاق كليّ بينهما، مستثارين على نحو فج ومذهل، يصفه كونديرا بـ “تفاهم كلي على تفجير الفحش! آه، حياتهما كم كانت يائسة! كل الرذائل الممنوعة وكل الخيانات غير المتحققة، كل هذا، يريدان أن يعيشاه بنهم؛ اتفاقهما كلي، … بالنسبة إلى كليهما كان هذا مرورا متسارعا للحياة: الجرأة التي يصل إليها العشاق بعد لقاءات عديدة، إن لم يكن بعد سنوات عديدة، ينجزونها على عجل، أحدهما يثير الآخر، كما لو أنهما يريدان أن يكثفا في هذه الأمسية كل ما فاتهما وما سيفوتهما”.
يشرح عالم الاجتماع زيجمونت باومان حال الغرباء في المدينة، حياتهم وخبراتهم تختلف عن أصحاب المدينة وأهل المحيط الاجتماعي، فهم “يجتمعون وينصرفون دون ذكريات مشتركة، ينخرطون في أحداث بلا ماضٍ وبلا مستقبل، ضمن حكايات لا يُكتب لها الاستمرار، يقتنصون كل الفرص المتاحة دون توانٍ، فوقت اللقاء لا مجال للتجربة والخطأ، ولا استفادة من أخطاء، ولا أمل في لقاء آخر، وخلال كل هذا الحراك الاجتماعي السائل يحتفظ كل فرد بذاته غريبة عن الآخرين وعن المدينة، ويستمتع بحياة وتجارب بلا ذكريات”. بجسدين منهكين تمدد كل من إيرينا وجوزيف وقد شعرا أن علاقة كلٍّ منهما بمدينة براغ قد انتهت إلى الأبد، شعرا أنهم اختزلا في ليلتهم المجنونة تلك كل السنين التي لم يقضياها داخل براغ، والآن حياتهم في باريس ما زالت تنتظرهم ليخطوا منفردين تجارب جديدة وذكريات جديدة.
الحنين غير مرتبط بمكان معين أو أشخاص معينين، هو بالأحرى طاقة وجدانية تنبع من الهشاشة الأصلية للإنسان الذي يعجز عن تحديد ما الوطن خارج الشعور بالحنين
في مقابلة لـ “ميدان” مع أحد الشباب المصريين المنفيين قسرا عن مصر وعن مدينته التي يحبها كثيرا الإسكندرية، يحكي لنا كريم أنه طلب من أحد جيرانه أن يصوِّر له مقطعا مرئيا عبر كاميرا الهاتف الجوال لشارعه والمقهى الذي اعتاد الجلوس فيه مع أصدقائه في محاولة للعيش مجددا داخل الأجواء القديمة التي حُرم منها وطال شوقه وحنينه إليها، فوجئ الشاب السكندري بشارعه وقد تبدل حاله وزالت أغلب معالمه وبناياته واختفى أصدقاؤه، وحتى المقهى قد زال، فيما شعر كريم أنه ابتعد عن شارعه وحيه ومدينته وبلده كلها بدرجة أرعبته، يردف كريم أن ما رآه كان له وقع في نفسه لم يتوقعه، إذ حرره من الماضي والحنين إلى حيه القديم وشارعه وأصدقائه، وجعله مقبلا على الحياة أكثر في منفاه أو بالأحرى وطنه الجديد. كان كريم كما أبطال رواية كونديرا قد تحرر من خداع الزمن والسلطة التي يفرضها على المنفيين باسم الحنين.
في الرواية كان جوزيف دائما ما يتخيل صورة بيته القديم في لحظة الغروب وقد علقت أمه عليه قطعة قماش لتساعده على العودة إليه وهو عائد من اللعب مع أصدقائه. وأثناء جلوسه في الطائرة عائدا من براغ إلى باريس ومتحررا من تلك الصورة التي لم تعد موجودة في الواقع، ما زال جوزيف يتخيل صورة بيته القديم ووالدته تثبت قطعة صغيرة من القماش أعلى مدخنة السطح لتدلّه على البيت، يبتسم ويخبرنا كونديرا أن الحنين لا يكون إلا لما لا يمكنك العودة إليه. الحنين غير مرتبط بمكان معين أو أشخاص معينين، هو بالأحرى طاقة وجدانية تنبع من الهشاشة الأصلية للإنسان الذي يعجز عن تحديد ما الوطن خارج الشعور بالحنين.
مثل جوزيف كان كريم قد تحرر من شعوره بالحنين إلى الأحياء القديمة التاريخية بالإسكندرية ورفاقه القدامى، إلا أن حنينه إلى أمه وسماع دعائها له في الصلاة والجلوس معها في جلسة أُنس حول أكواب الشاي قبل الغروب هو أكثر ما يفتقده. يؤمن كريم، إن أطال الله أعمارهما، أنه ربما يجتمع بها من جديد مستأنسين حول أكواب شاي دافئة في مدينة أخرى غير تلك التي نبذته، فرغم كل ما مرا به ما زال في الحياة متسعا للمسير والتمني.